النظام العقائدي بين مسؤولية القائد والعقيدة.

   يجمعون الباحثون من الميالين الى الديمقراطية وبعد طول تجارب الى أن ضعف الدولة (العقائدية) وانهيارها ناجم عن دمج العقيدة أو الدين بها، ويعدونه سبباً رئيساً، لأنهيارها سواء أكانت دنيوية كالماركسية أو سماوية كالأسلام، لأن للدولة علم خاص بها (علم الأدارة) والذي لايقبل بأي علم يشاركه في تسيير أمورها، ومتى ما أوجدوا شريكاً له فأن انهيار الدولة حتمي، وليس أدل على ذلك سقوط الدول الشيوعية كافة باستثناء التي اتبعت اسلوب الانتاج الرأسمالي كالصين، أما الاخرى ككوريا الشمالية وفيتنام وكوبا فتنتظر السقوط، ان لم يتدارك قادتها ذلك وينزعوا العقيدة عنها.

الحالة عينها نراها شاخصة في النظم العربية والاسلامية الساعية الى جعل الاسلام دستورا لها، ولقد أثبتت مسيرة بعضها، كيف أنها اسوأ بكثير من النظم الشيوعية البائدة، فالنظم الشيوعية على النقيض من النظم الاسلامية تميزت بلون من الاستقرار والمتانة، إلا نادراً، وكذلك ببعض من التقدم في بعض من المجالات، ولولا نفيها للحريات ونظام اقتصاد السوق وأمور اخرى غيرها لكانت تتمتع بحياة اطول لربما امتدت الى ايامنا هذه، في حين نجد البلدان الاسلامية سواء التي تحكمها نظم اسلامية أو للاسلام السياسي فيها باع طويل، كأيران والسودان والعراق وافغانستان تزخر بالحروب والاضطرابات، واذا اعتقد بعضهم، ان الوضع في كل من مصر وتونس وسوريا المستقبل سيتحسن بمرور الوقت ويهداً فانهم واهمون، وكلما طال به العمر كلما اقترب نحو المزيد من الافغنة والصوملة.

ويأتي دمج الدين بالدولة تلقائياً جراء دمجه بالحزب أولاً وفي مرحلتي السرية والعلنية، فالأحزاب الشيوعية، مثلاً، كانت الأكثر عرضة للانشقاقات والصراعات فيما بينها، منها ما كانت دموية كالتي جرت في اليمن الجنوبي واثيوبيا، أو على صعيد خارجي كالصراع السوفيتي – الصيني وبينهما وبين بقية الأحزاب الشيوعية في اوروبا الشرقية واختلاف الاخيرة مع بعضها بعضاً ومع (الاوروشيوعية) في اوروبا الغربية فالاتجاهات الشيوعية المتطرفة كالتروتسكية والماوية والجيفارية، في حين وبصورة عامة كادت الخلافات والانشقاقات سيما الدموية منها ان تغيب عن الاحزاب التي لم تجعل من العقيدة أو الدين مرجعاً لها، وكان ذلك من اسباب نجاحها وديمومتها. وهكذا فأن  العقيدة الدنيوية أو السماوية كانت وستظل عند دمجها بالسياسة والدولة من عوامل الفرقة والتشرذم، ليس على مستوى الدول والاحزاب فقط انما على مستوى المجتمعات ايضاً التي غالباً ما نجدها تنتظم ضمن وحدات جغرافية معينة أو أحياء داخل المدينة الواحدة.

اضافة الى ما ذكرنا، يستحيل تصور قيام نظام ديمقراطي في بلد يشكل فيه الحزب العقائدي أحد طرفي الثنائية التقليديين في التداول السلمي للسلطة، فالحياة الديمقراطية من الصعب قيامها بوجود قوتين متنافرتين علمانية أو دينية، لأن الديمقراطية لاتتحقق إلا بتنافس حزبين منسجمين في الرؤى والأهداف، بحيث يصعب التمييز بينهما كما هو الحال في الاحزاب: الديمقراطي والجمهوري في أمريكا  والمحافظون والعمال في بريطانيا والمؤتمر الوطني الهندي وجاناتا في الهند.. الخ من الديمقراطيات، اما توقع ديمقراطية في الأرضي الفلسطينية مثلاً بين قوتين متنافرتين:  فتح وحماس أو بين الأخوان المسلمين ومنافسيهم العلمانيين في مصر وتونس مثلاً، فهو ضرب من الخيال وذلك مالم تنتهج الاحزاب الاسلامية الحاكمة، نهج الأحزاب المسيحية الديمقراطية في بعض من البلدان المتقدمة والتي يصعب التفريق بينها وبين الاحزاب العلمانية و بالاخص الاشتراكية للتطابق الشديد بين ادائهما وأهدافهما، ورغم ذلك فان المرء يشهد تراجعاً بيناً للاحزاب المسيحية الديمقراطية في تلك البلدان.

ازاء فشل الأحزاب العقائدية وانهيار نظمها وتقلص قواعدها، وعلى وجه الخصوص الاحزاب والنظم الشيوعية، انقسم الرأي وتضارب حول السبب في ذلك، اذ حمل بعضهم القادة مسؤولية ماحصل، وقلة من حملوا العقيدة تلك المسؤولية. لكن العكس هو الصحيح، فالخلل كان في زج العقيدة بالدولة اصلاً، فالقادة الشيوعيون قبل وصولهم الى السلطة، كانوا مناضلين شرفاء بحق يضرب بهم المثل في التضحية لأجل نصرة الانسانية المعذبة والفقراء، بيد انهم ما أن تسلموا السلطة وراحوا يخضعونها للنصوص الماركسية واذا بهم وبنظمهم جميعاً يتحولون الى دكتاتوريين على غرار ستالين وماو وكاسترو...الخ والقول نفسه يسري على قادة الاسلام السياسي من سنة وشيعة، فلقد عرفوا بالنزاهة والاخلاص لقضايا شعوبهم والتضحية من اجلها لكنهم ما أن جعلوا من الحكومة أو الدولة مختبراً لنصوص الشريعة واذا بهم وبنظمهم (مصر وتونس) وقبلهما ايران يتحولون الى ديكتاتورية سافرة، ولو قدر للبنا وسيد قطب والصدر والصواف الوصول الى السلطة لكانوا غير ذلك المصلحين العظام الذين كرسوا حياتهم لاجل بناء نظام اسلامي عادل. والسبب في ذلك دمج الدين بالدولة ليس إلا، لذا فان انحراف النظم العقائدية عن رسالاتها السامية لايتحمل وزره القادة بقدر ما تتحمله العقيدة المدمجة بالسياسة والحزب والدولة.

وثمة اسبابا اخرى للوهن المبكر في الاسلام السياسي، منها الغاء الحرية للمكونات غير الاسلامية والتي يربو عددها على الملايين في بعض من البلدان الاسلامية. اذ ان مجرد القول بجعل الدين الاسلامي مرجعا للدستور، يعني انتقاصاً من مواطنة غير المسلم، ما يدفع بتلك المكونات الى التذمر فالمقاومة، ومما يضعف من الاسلام السياسي انه في معظمه اسقط حكوماته بالعنف (الربيع العربي) فيما  برهنت التجارب خطأ انتزاع السلطة بالقوة، ناهيكم عن رفض الاسلام نفسه أي مسعى لتغيير الحكام بالقوة فوضعه لشروط تعجيزية لأسقاطهم.

أول الغيث مطر.

ان الانتفاضات والثورات ذات الطابع الديني الاسلامي في تونس ومصر مثلاً، خلافاً للانتفاضات والثورات القومية أو الطبقية الشيوعية أو الانقلابات العسكرية التي تكون بداياتها قوية ولسنين، فان الانتفاضات والثورات الاسلامية سرعان ما دب الضعف فيها وهي في اول الطريق، فها هي الاعتصامات والاعتقالات والمصادمات والفلتان الامني.. الخ من العيوب الكبيرة تلازمها ملازمة الظل لصاحبه ما يعني ان الدولة العقائدية المسلمة دخلت النفق المظلم بسرعة قياسية، ولا اغالي ان قلت ان مصير الاسلام عقيدة وفكراً على يدها سيكون المصير نفسه الذي آلت إليه الماركسية.

لقد أدرك الغرب بتجاربه التي استخلصها من دمج الماركسية بالدولة والذي قاد الى انهيار الاتحاد السوفيتي وحليفاته، ان دمج العقيدة بالدولة يساعد في إمرار سياساته، لذا عدل عن محاربة الاحزاب الدينية بل وساعدها وما يزال للوصول الى السلطة.

كاتب سياسي – العراق .