إلى أن يقدم المالكي تفسيرا ملائما لرحيله المفاجئ عن واشنطن, سأكون مضطرا مثل غيري للبحث بنفسي عن هذا التفسير, متمنيا في الوقت نفسه, ان لا تكون هناك صحة للخبر الذي يقول أن الإدارة الأمريكية هي التي طلبت منه الرحيل, وذلك للتعبير عن غضبها عليه, فلو أن ذلك قد حدث فمعناه أن العراق كدولة قد وصلت إلى وضع مهانة لا يتمناها حتى أعداء النظام الذين ما زالوا يميزون بين صراعهم ضد المالكي ونظامه وضرورة أن لا يأتي ذلك على حساب وجود ولو صوري لدولة عراقية مستقلة. لنقترب من حقيقة بات الجميع يدركها, وهي أن المالكي كان تعرف على مصادر قوته من خلال محاولته مسك العصا من الوسط في لعبة تداخل المصالح الأمريكية الإيرانية في العراق وليس من خلال تفعيل المصلحة الوطنية وصولا إلى جعلها البوابة الأساسية للإقتراب والتعامل مع تلك المصالح. وقصة مسك العصا من الوسط في ساحة لعب الكبار الدوليين والإقليمين هي مثل حال الأرنب الذي يحاول الرقص مع الذئاب, والثعلب الذي يريد أن ينافس الأسود على فرائسها, والحمار الذي يقنعه الغرور بصوته إلى أن بإمكانه أن يربح مسابقة الأرب أيدول. إنها لعبة قد توفر لك فرصا للفوز لكنها تأخذ منك جميع ما غنمته في أول لحظة لفقدان التوازن, وقد لا تكتفي بذلك وإنما قد تأخذ معها رأسك لغرض التلويح به لآخرين, إذا ما حاولوا القيام بنفس الدور حتى لا يلعبوا باذيالهم لحسابهم الخاص, او لحساب طرف أكثر من الطرف الآخر. إن رجالا آخرين, على شرط أن يكونوا من خارج دائرة الفقه الإسلاموي السياسي الذي تربكه بقوة معادلة القربى الإقليمية على حساب القربى الوطنية, سيكونوا قادرين على إقتراب أفضل لساحة المصالح المتداخلة والمتقاطعة, إقليميا ودوليا ووطنيا, وسيكونوا أيضا محصنين من خطر الوقوع تحت أقدام المصارعين من ذوي الوزن الثقيل. وفقط بإمكان المصارع في حلبة الصراعات الدولية والإقليمية أن يستر عورته إذا نزل إلى تلك الحلبة وهو يرتدي سروالا صنعه له شعبه, أما وإن يصعد إليها عاريا فإنه سيخسر الإثنين , لقبه وسمعته. ومشكلة المالكي مع أمريكا, أن هذه الأخيرة, وقد قدرت أن بإمكانه أن يضبط الساحة العراقية على أنغام مصالحها, كانت قدَرّت أيضا, على اساس معرفتها وميلها إلى قضية التوازنات الطائفية والعرقية, أنه قادر أيضا على تبريد ساحة المواجهة بين مصالحها ومصالح إيران, دون أن يلعب لصالحه بإتجاهين, أحدهما الإستغلال المفرط لهذا الدور في سبيل تأكيد هيمنته الفردية وزعامته الدكتاتورية, وثانيهما ميله بالضرورة إلى الجهة التي تشير إليها بوصلته الفقهية السياسية الطائفية, أي إلى جهة إيران على حساب جهتها. وأظن أن أمريكا قد لمست فيه الميلين, ميل إلى العمل لحسابه على حساب قضية الديمقراطية, ولو بشكلها الطائفي العرقي, بما سبب إرباكا لهذه الديمقراطية ووضع أمريكا أمام ولادة مبكرة لدكتاتور جديد سيتسبب لها حتما بصداع لم تكن على إستعداد لتحمله. وميل آخر إلى محور إقليمي تتزعمه إيران الذي املى بدوره إشتراطات لتمشيط الساحة العراقية, على مستويات متعددة. ولأن هناك شروطا هامة من اللازم توفرها لتأهيل السياسي وتمكينه من اللعب في ساحة التوازنات. وبعيدا عن تأهيل وبناء الساحة الوطنية وتوفير سبل مناعتها بإتجاه تمكين هذا السياسي على الدخول إلى حلبة اللعب مقتدرا, أقول.. إن المالكي, وقد بدا في المرحلة السابقة, لبعضهم, أن بمقدوره أن يكون رجل هذه اللعبة, فإن آخرين كان قدروا له أن يكون اضعف اللاعبين وأكثرهم تعرضا للوقوع من حبل التوازن لسبب بسيط وهو عجزه عن مسك عصا التوازن من الوسط, بين طرف أمريكي كان إنسحب بجيوشه إلى خلف المحيطات, وطرف إيراني يمتلك الحدود المشتركة والفقه السياسي الديني المذهبي المشترك, ويستطيع من خلال نفوذه الأميبي, الإمتداد والتكائر, أن يضع المالكي في جيبه في الساعة التي يريد. ولو قدر أن يكون هناك بحثا دقيقا عن الأسباب التي دفعت المالكي لتمشيط الساحة العراقية بطريقة تثير الدهشة, مطيحا بحلفائه ومنافسيه وشركائه الواحد تلو الآخر, لما كان بالإمكان العثور عن سبب مقنع خارج دائرة الولاء لدولة الفقيه, وإلا الوقوف أمام إعتقاد خاطئ أوهمه بقدرته على اللعب على حبال الوديان العميقة ولو حتى دون إستعمال لعصا التوازن, متيقنا أن أمريكا, وهي المحتاجة إليه في ساحة ضبط لعبة التخادم الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية, وتأجيل الصدام لحتى إشعار آخر لحساب فتحه في ساحات أخرى, سوف تكون غير ميالة لمتابعته ومراقبته ومنعه ومحاسبته, خاصة وإن أوباما الغارق في لجة مشاكله مع الجمهوريين والحريص على عدم زج أمريكا مباشرة في مطبات الصراع على الساحة السورية سيكون أكثر ميلا للتغاضي عن ما يمكن تفسيره بانه خروج حقيقي على اللعب المتفق عليه لأهداف واساليب غير متفق عليها. وجاء الوضع المتفجر والمتدهور على الساحة السورية ليحرم المالكي من فرصة طبخ وجباته على نار هادئة وليحرمه من قدرة مسك العصا من الوسط. إن سرعة تطور الحدث السوري بكل مشاهده السياسية والعسكرية قد كسرت عصا المالكي والهبت النار في موقده, ولم يعد بمقدور أمريكا أن ترضى عنه وهي تراه مسرعا لتغيير المعادلات السياسية في الداخل العراقي, والتي إعتقدت أن وجودها, ولو على مستويات متواضعة, هو الذي سيساهم لها سياسيا بحفظ مصالحها غير المحمية بقواتها العسكرية, ويبدو أن المالكي كان قد ضعف بصره, أو أنه أصيب بعمى الألوان, بحيث أنه فقد قدرة التمييز بين خطوط أمريكا الحمراء وخطوطها الصفراء فتصور أن ما هو أحمر هو أصفر ! وليس غريبا أن يلجأ الرئيس الأمريكي إلى تبني ما ورد في رسالة غريمه ماكين وان يذهب بالتالي إلى تقريع المالكي, رغم ان هذا الأخير حاول أن يبطل تأثير هذه الرسالة من خلال إستخدام تخويفي بقضية الإرهاب ومحاربة القاعدة, ناسيا ان امريكا سوف لن تعتمد على أقواله لإكتشاف أبعاد هذه اللعبة ذاتها ومعنى تصاعدها في الفترة الأخيرة, ودور المالكي السياسي والإجتماعي والعسكري في تصعيد هذا الإرهاب وتأجيجه ومنح القاعدة فرصة إعادة تشغيل دورها ونفوذها في العراق. أما أوباما فلا بد وإنه شعر بمسؤولية أخلاقية شخصية عن تشجيعه للمالكي لكي يقوم بما قام به, فالجميع يتذكر ان تمشيط الساحة العراقية مالكيا كان بدأ في أعقاب الزيارة ما قبل الأخيرة للمالكي ولقائه الحميمي مع أوباما, والذي إستثمره بشدة مفتتحا معركة التمشيط تلك بتوجيه تهمة الإرهاب للهاشمي ومن بعدها للعيساوي بحجة قيام بعض مرافقيهم بعملية إغتيالات بمسدسات ذات كواتم, في حين ظهر بعد ذلك أن التاجر نمير العقابي, المقرب إليه والنديم لإبنه, قد حوى مائة مسدس بكواتم, ورغم ذلك فقد سمح له بمغادرة العراق سالما غانما. ومع كل ما يتحمله الموقف من تفاصيل أخرى, نرى أن أمريكا لا بد وأنها ستقوم بمراجعة موقفها من المالكي, ولمدى قدرته لان يكون له دور في ضبط معادلات التوازن الدولي والإقليمي في العراق, وذلك من خلال حقيقة أن رجال الفقه السياسي الإسلاموي المذهبي هم أقل قدرة من غيرهم على الوفاء لهذه المعادلات في وسط ساحة إقليمية باتت محكومة بهذا الفقه على مستويات تثير القلق. كذلك يتوجب على السياسي العراقي أن يؤمن بأن قدرته على أن يلعب ذلك الدور دون أن يقع من حبال التوازن لا تتلخص فقط في قدراته على مسك العصا من الوسط, وإنما تتوفر بداية من خلال أقدام قوية ثابتة لا يصنعها سوى داخل وطني ملتم على نفسه وبإرادة سيادية تُرَتِب ما هو دولي وإقليمي لصالح ما هو وطني, وليس العكس أبدا, وعلى الإطلاق.
|