في الطابق الثالث وفي أحدى زوايا مستشفى الراهبات ، يرقد معلم المسرح العراقي يوسف العاني ، شاهداً على تحولات وطن ، تصارعت فيه قوى السياسة على مفهوم اليسار والقومية ، لتنتهي إلى معارك صبيانية على مفهوم الطائفة والمذهب . عقود ثمانية عاشها الأستاذ في الحياة وفي الفن ، ثمانية عقود هي تاريخ العراق المعاصر. ولد يوسف العاني في الفلوجة ، وهي تعيش ذكريات ثورة العشرين ، ولمع في بغداد وهي تودع الملكية، وسجن في الحلة حين قرر العسكر نحر عبد الكريم قاسم ، وطورد وشرد، وهو يأمل أن يعود إلى بلاد تنام على أغنيات السكينة وتصحو على أناشيد السلام ، وبرغم كل المصاعب لم يأفل أو يتوارَ، بل سوف ينتقل بالفن العراقي إلى رحاب أوسع، معبرا عن كل مراحل العراق . في الخمسينات ومع إبراهيم جلال وخليل شوقي وزينب، شكّل فرقة مسرحية مهمتها تصدير الوعي والفكر في بغداد والبصرة وذي قار والسليمانية والموصل والانبار. كانت أصواتهم تصدح، فتردد الناس معهم: "ماذا حل بنا.. أين نحن..ماذا علينا أن نفعل"؟ كانوا فرقة مواهب، فيما كان إبراهيم جلال يصر على إدخال الحداثة إلى خشبة المسرح، كان يوسف العاني يتسقط الحكايات من المقاهي والخانات وتظاهرات الطلبة والعمال. وكان جبرا إبراهيم جبرا يعرّق "غودو" لهم، فيما كانت زينب وناهدة وعمة زكية يسطرن في كلمات رقيقة تاريخ نسوة العراق ونضالهن وصبرهن وصرختهن في وجوه الجلادين. فنانون جاؤوا مرة واحدة ليفاجئوا العالم بأن صوت الفن العراقي هو الأعلى.. ألم يرسم حجازي المصري على صفحات صباح الخير صورة المسرح المصري يغط في النوم ، وفي الطرف من الصورة يقف يوسف العاني شامخا يقول "صح النوم"؟ سوف يبني هؤلاء الذين جاؤوا من معظم مدن العراق، عراقا مصغرا في أحد شوارع البتاوين ، في العاصمة التي ولدت حديثا على يد رجال فكر وثقافة: الجواهري، صلاح خالص، إبراهيم كبة، نزيهة الدليمي، علي الوردي، البياتي، صفاء الحافظ، عبد الجبار عبد الله وغائب طعمة فرمان . قبل أيام وأنا أجلس قرب سرير يوسف العاني، كنت أنظر في الوجوه التي تزوره، مرضى وأطباء ووفد من كربلاء وآخر من أربيل وامرأة تركت مريضها حين سمعت أن "حمادي" أنهكته السنون، وأبحث عن سياسيي الميكرفونات فلم أجد أحدا منهم. مثلما لم أجد أثرا لهم.. أنظر إلى وجوه الزائرين وأتذكر خطب رئيس مجلس الوزراء الذي أراد ان يوهمنا يوما بأنه منشغل بأحوال المثقفين والمبدعين.. وقد كنت مثل غيري من العراقيين أتابع أنشطة المالكي ومشاركاته في المناسبات السياسية والحزبية التي خرجت منها بحصيلة تقول إن السيد المالكي لم يحضر مؤتمراً أو تجمعاً للقوى المدنية والشبابية.. والمرة الوحيدة التي ذهب فيها لشارع المتنبي لم يدخل المكتبة العصرية.. ولا حث الخطى للمشاركة في احتفاء بيت المدى بذكرى علي الوردي، لكن أفواج الحمايات قطعت الطرق والجسور من اجل أن يتناول رئيس مجلس الوزراء قدحاً من الشاي في مقهى الشابندر! قبل أيام كنت أعتقد أن أقدام المالكي ومعه رئيس البرلمان وبصحبتهما عدد من "منتفعي" السياسة، ستحث الخطى لتدخل إلى الغرفة 321 في مستشفى الراهبات، لنصدق انهم مشغولون حقا بالمبدعين، وانهم يؤمنون بأن بناء البلاد لا يتأتى من خطب وشعارات طائفية، وإنما من ثقافة وطنية كان العاني واحدا ممن رسخوا جذورها في العراق.. وانتظرت أن أقرأ في صحف الصباح، ان قادة البلاد توافدوا على مستشفى الراهبات مثلما توافدوا ذات يوم على مدينة الطب، ليطمئنوا على صحة احد الأعضاء البارزين لحزب الدعوة، ومثلما حثوا الخطى ليطمئنوا على العملية التي أجراها الشيخ خالد العطية، ومثلما بعثوا الوفود وبرقيات التهنئة بسلامة حنان الفتلاوي.. لكنهم اليوم يضعون أصابعهم في آذانهم حين تعلو الأصوات تطالب بمعالجة العاني على نفقة الدولة أسوة بالنواب الذين أجروا عمليات التجميل! في الطابق الثالث من مستشفى الراهبات، يجلس الأستاذ، مطمئنا أنه ترك لهذا الشعب إرثه العظيم فناناً ومبدعاً كاشفاً عن الروح العراقية حين تسعد وحين تحزن مقتحماً ذاكرتنا واثقاً من أن أعماله ونتاجاته ستبقى محل اعتزاز وطنه وفخر أمته لأنها ستظل علامات مضيئة في تاريخ ثقافتنا الوطنية، برغم لامبالاة سعدون الدليمي، وصمت النجيفي والمالكي.
|