عدت لأجمع مقالاتي المنشورة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فوجدت أن 90 بالمائة منها تتناول الشأن البرلماني العراقي بشكل مباشر أو غير مباشر، وليس هذا التركيز على الفئة المستهدفة من قبيل المصادفة أو من باب الاستهداف العشوائي لمجلس النواب العراقي، بل لعلمي أن الحل العراقي يبدأ من البرلمان، وينتهي به. ولقد وجدت بعد طول معاناة أن ما يحتاجه العراق اليوم، بل منذ إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، هو المعرفة الشعبية بماهية العمل البرلماني، فإذا أحرز الشعب الثقافة البرلمانية الصحيحة، وحاز على قدر واف من معرفة دور البرلمان في صناعة الهوية الوطنية، وفي بناء السمعة الدولية للعراقيين تمكن آنذاك من التفريق بين الصالح والطالح ممن يرشحون أنفسهم لشغل مقاعد مجلس النواب العراقي.
إن شعبنا العراقي ـ وبلا مجاملات ـ سيئ الاختيار، ولذلك اختار أناسا سيئين لا على الصعيد الشخصي أو الاجتماعي اليومي، بل أناس سيئون في تدبير قرارات الدولة وسياسة أمور الشعب. ومرد سوء الاختيار هذا طيلة الانتخابات الماضية ـ وربما الانتخابات القادمة ـ إلى الجهل الشعبي بدور المؤسسة في مقابل دور الفرد في المؤسسة، سواء أكان عضوا في فريق، أو قائدا لذلك الفريق، حيث العمل الفِرَقي هو روح المؤسسة.
مشكلة العراقيين وإن شابهت مشاكل شعوب أخرى، تكمن في التعويل على الرأس ونسيان بقية الأعضاء، مشكلتهم أنهم يختصرون الحزب برأس الحزب (لا قانون أحزاب لدينا)، يختصرون المحافظة بالمحافظ، والجامعة برئيسها، يختزلون المديرية بمديرها، وربما الدولة برئاسة الوزراء، ولهذا ترى العراقيين ينتظرون من (رؤساء) الكتل أن يغيروا الواقع العراقي كرؤساء كتل لا كقادة فريق (Team leaders )، بل إن أعضاء الكتل أو الأحزاب (غير المقننة حتى اليوم) لا يرفعون أيديهم بالتصويت ضد أو مع أي تشريع حتى يروا قرار "زعيمهم" ليكونوا معه (هذا معنى الإمعة ـ والأمثلة تضرب ولا تقاس).
مشكلة العراقيين أنهم يرددون مقولة "ذبها برقبة عالم واطلع منها سالم"، وهم لا يدركون أن العالِم في عصر الديمقراطية هو الشعب، لأن أي عالم لن يكون كذلك ما لم يصادق عليه الشعب، ومتى ما جهل الشعب كيف ينتخب، ولماذا يختار، أساء الانتخاب وأفسد الاختيار فكانت عواقب الاختيار عكس ما أريد لها أن تكون.
المعادلة العراقية اليوم أوضح من أي وقت مضى: الشعب هو الفيصل. علم الشعب نور لطريقه، وجهله وبالٌ عليه، لقد بات الرهان على الوعي الشعبي هو الرهان، وحتى يصل الشعب العراقي إلى مستوى من النضج الثقافي لمعنى العمل الإداري ويحوز معرفة أولية بدور قائد الفريق ضمن فريقه، دور المحافظ ضمن فريق مجلس المحافظة وتقسيماتها الإدارية، دور رئيس مجلس الوزراء ضمن السلطات الثلاث، عندها فقط سيعرف الشعب أنه هو العالم، وأن اختيار العالم خير كله، كما أن اختيار الجاهل شر كله.
سيعرف الجنود أن النصر في المعركة لا يحققه قائد بارز منفردا، وسيعرف الصحفيون أن سمعة الصحافة لا تتحق بالنقابة وحدها، كما أن تحضر البلاد وعمرانها لا يقتصر على رئيس الوزراء أو رئيس برلمان منفردا. هناك فقط سيلوم الشعب نفسه قبل أن يلوم من اختارهم، وسيعاتب نفسه قبل أن يعتب على أعضاء البرلمان، وسيقرّ بجهله قبل أن يقر بجهل مجلس النواب. هناك سيعود الشعب إلى فهم أن لا عالم في صناعة حياة الأوطان إلا شعوبها، ولا جاهل يمكن أن يتسبب في خراب الأوطان إلا شعوبها. أعطني شعبا عالما أعطيك برلمانا عالما. ففي العصر التمثيلي البرلماني لا عالم إلا الشعب، ولا جاهل إلا الشعب.
|