الأزعر والأمة

 

الأزعر في القاموس سيء الخلق، وجمعه الصحيح زعر لا زعران، وللزعرنة تاريخ طويل، يبدأ مع قتل قابيل أخيه هابيل، ولا ينتهي عند زمننا الحاضر، وكان للأمتين العربية والإسلامية نصيبهما الوافر منها.

     قادة اليوم هم زعر الأمس، وقد يكون زعر اليوم قادة الغد، فرضية تاريخية، تستحق الدراسة، نبلاء القرون الوسطى في أوروبا كانوا من قبل الزعر الذين اعتمد عليهم الملوك والأمراء في تكوين وحماية دولهم وإماراتهم، فكافؤوهم بالألقاب والإقطاعيات، وفي اليابان تحول الساموراي الزعر من مقاتلين مطيعين لسادتهم إلى أصحاب سلطة ونفوذ فيما بعد، وفي أمريكا نجح الزعر الذين حاربوا سكان القارة الأصليين واستولوا على أراضي صغار المزارعين ومربي المواشي وسيطروا على المناجم في تكوين ثروات كبرى واكتساب مكانة اجتماعية مرموقة ونفوذاً سياسياً كبيراً، ولوتمعنا في تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أمثلة كثيرة على ظاهرة الزعر وأدوار نشوئها وتطورها.

    يخبرنا القرآن الكريم عن معاناة نبي العرب الأقدم صالح من سلوك الزعر من قومه، وكان من بينهم من وصفه القرآن الكريم بالأشقى: [كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا] (الشمس:12)، والشقي هو الضال أو التعس، وفي لغة العرب المعاصرين هو الخارج على القانون، فهو والأزعر سواء.

   و لم يكن هذا الشقي الذي عقر الناقة الأزعر الوحيد في قوم ثمود فقد كان له رفقاء في الزعرنة والإفساد: [وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] ( النمل:48-49).

    للأزعر دور بارز في تاريخ العرب ما بين فناء ثمود بالغضب الرباني ونبوءة رسولنا الأعظم، إذ اعتمدت عليهم القبائل العربية في نزاعاتها، وهم بطبيعتهم أكثر الناس استعداداً لممارسة السلوكيات العدائية، من ظلم وغزو ونهب وسبي واستعباد ووأد للبنات، وكانت قيم الأزعر السائدة بين الأعراب، وعندما تطرف البعض منهم في الزعرنة والعدوان حكم عليه بالطرد من القبيلة، وهؤلاء هم الصعاليك.

   استعان سادة قريش وأكبرهم أبوسفيان بالزعر في محاولتهم القضاء على الدعوة الإسلامية، وكان من أبرز هؤلاء الزعر أبو جهل عمرو بن هشام، وكان أشقاهم إذ حاول قتل الرسول الأعظم بنفسه لكنه فشل فاقترح على المشركين خطة لإغتيال نبي الإسلام يشارك بها أزعر من كل قبيلة، وكان مصيرها الخيبة أيضاً، ولم تكن الزعرنة حصراً على الذكور من المشركين، ونجد مثالاً على ذلك في سلوك هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، في تحريضها للعبد الأزعر وحشي على قتل حمزة عم النبي وفي شقها لبطنه وانتزاع كبده ومضغها، وهو من أبشع سلوكيات الزعرنة.  

    اعتمد خلفاء المسلمين ومنذ تأسيس العهد الأموي على الزعر في الدفاع عن سلطانهم والتخلص من معارضيهم، وفي العهد العباسي انتشرت ظاهرة الزعران في بغداد، وهم العيارون والشطار، الذين احترفوا اللصوصية والاحتيال، واستعان بهم الأمين بن الرشيد في قتال أخيه المأمون، وبدأ تدهور الحكم العباسي مع اعتمادهم على الزعر الأتراك لحمايتهم، فلم يمر وقت طويل حتى تسلطوا عليهم، وصار هؤلاء الزعر يخلعون الخلفاء أو يغتالونهم ويعينون بدائلهم.

     برز الزعر في العهد العثماني، والإنكشارية الذين حموا الخلافة كانوا من الزعر، وهم ترعرعوا على احتراف القتل والقسوة والفظاظة، واشتهروا باقتراف المجازر والتعذيب الوحشي للأسرى والتمثيل بجثث القتلى، حتى اصبحوا عبئاً على حكم بني عثمان فعمدوا للتنكيل بهم، وكان لكل والي عثماني مجموعة من الزعر أو القبضايات يستعملهم في ترهيب السكان في ولايته وقتل مناوئيه.

    انقضى حكم العثمانيين، وانتهت عهود الإحتلال الأجنبي لكن بقي الزعر، لأنهم يجسدون قيماً ثابتة في مجتمعاتنا، التي تمجد القوة في مختلف صورها، وهي في عرف العرب أعلى وأسمى القيم، فهم غالباً يخافون القوي ويقدمون له فروض الولاء والطاعة، ولو تعسف في معاملتهم فقد يحقدون عليه سراً، لكنهم وبصورة عامة يحسدونه ويتمنون لو كانوا مكانه، لذلك تسلط عليهم الطغاة، الذين استعملوا القوة وسيلة أساسية في الوثوب على السلطة والاحتفاظ بها، واكتسب الحكام الزعر شرعية الأمر الواقع من الفقهاء الذين أفتوا لأتباعهم بوجوب طاعة الحاكم ولو وثب على الحكم بالسيف وسامهم الخسف والهوان.

   الزعر هم أحد أركان النظم العربية الطاغوتية، ويفضلهم الطغاة لأنهم مرتزقة، ينفذون من دون اعتراض أو نقاش، مقابل ثمن معلوم، من مال أو نفوذ، وتزخر أجهزة المخابرات والأمن العربية بالزعر، وهم متواجدون أيضاً في كافة مؤسسات مجتمعاتنا، ولا تخلوا منهم الجامعات والمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية، وهؤلاء الزعر من الأكاديميين ورجال الدين والحزبيين ادركوا أن القوة البدنية ومهارات القتال لم تعد كافية أو مناسبة للحصول على القوة والمنصب والتسلط على الآخرين، لذلك سعوا إلى اكتساب مهارات أخرى ذات قيمة، مثل الشهادات الجامعية والإجازات الفقهية والمهارات الإدارية والتنظيمية وغيرها، وهم يستعملونها كوسائل وأدوات لكي يبلغوا هدفهم الأعلى في الوصول إلى قمة الهرم في الجامعة أو المذهب أو الحزب أو المؤسسة، وكل الوسائل مبررة في عرفهم، وهم أكثر حرصاً من الزعر السابقين في اخفاء زعرنتهم تحت قناع من التحضر والعقلانية، ولكنهم سرعان ما يتخلوا عن هذه الأقنعة ليكشروا عن أنيابهم ويبرزوا مخالبهم بوجه أي تهديد لمناصبهم وسلطاتهم.

    لا يقتصر تأثير القيم السائدة على سلوك العرب الذكور بل تتعداهم إلى كافة أفراد المجتمع من النساء وحتى الأطفال، وقد تتسلط المرأة على زوجها أو أبناءها لكي تشبع نزعة التسلط والزعرنة، وتستعمل في سبيل ذلك المكر ولسانها السليط، والأطفال الزعر هم الأشقياء الذين يضطهدون أقرانهم في المدرسة والشارع، وقد تظهر لديهم هذه النزعة في سن مبكرة، نتيجة التربية العائلية وعوامل البيئة الاجتماعية الأخرى.

   ما دام العرب يضعون القوة فوق كل القيم فلن تختفي ظاهرة الزعرنة، وستبقى المجتمعات والمؤسسات العربية تحت سيطرتهم، وعندما تسود اعتبارات القوة سلوكنا وتنفذ إلى داخل بيوتنا فلابد أن تتأثر بها سلباً علاقاتنا مع الاخرين، فلا نتعجب من تعسف الزوج مع زوجته والأب مع أبناءه والجار مع جاره والمدير مع مرؤوسيه، وقد يكون ذلك أحد الأسباب الرئيسية لتخلف دولنا ومجتمعاتنا واضطرابها وتقاتل جماعاتها وقلة إنتاجها وتدني إبداعها.

   سيصحوا المسلمون من سبات القرون ويزهر ربيع العرب وتختفي الزعرنة من بينهم عندما ينبذون عبادة القوة ويستبدلونها بقيم الإحياء والإصلاح والتعلم والتعاون.

5 تشرين الثاني 2013م

(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والاصلاح، ووسيلة كبرى وهي التعلم)