مهزلة النظام التعليمي في العراق

 

يكثر الحديث يومياً عن الإنجازات العظيمة التي تحققت على يد حكومة (بعد ما ننطيهه) وفرسان دولة اللاقانون. فالتفجيرات اليومية وأنهار الدماء والجثث على الشوارع والأرصفة يومياً أصبحت ظاهرة عادية جداً لا تستدعي القلق أو الجزع. جميع دوائرنا الحكومية والخدمية من الشرطة إلى الداخلية إلى الكمارك إلى الضريبة إلى المرور إلى الأحوال المدنية إلى الجوازات إلى الوزارات إلى البلديات ومجالس المحافظات بدون استثناء أصبحت تعمل بنظام الرشوة والخاوة و(الإكرامية) الإجبارية. الخدمات ومشاريع (إعادة الإعمار) طرفة يتبادلها العراقيون يومياً بمرارة وحرقة صدر. المهم أن العملية السياسية بخير، وكما يقول المثل العراقي الطريف: "شمّر بخير، بس عايزهم الـﭼـسوة والزاد".

كلاب القاعدة والوهابية السعودية يفجرون كل يوم في كل مكان من اختيارهم و(يحررون) السجون من المعتقلين ولهم في الدولة وزراء ونواب يشرفون على نقل المتفجرات إلى البرلمان والمباني الحكومية والدفاع عن حقوق الإرهابيين المعتقلين والذود عن شرف (الحرائر)، والجيش العراقي الذي تعداده مليون أو أكثر غير قادر على ردع بضعة آلاف من (أسود) دولة العراق الإسلامية، علماً أنه أكثر جيش في العالم يحتوي على حملة الرتب العسكرية الرفيعة جداً من لواء ومقدم وعميد وعقيد وغيره، ممن احتسبت لهم (خدمة جهادية) أثناء فترة إقامتهم و(نضالهم) قبل العام 2003 في ربوع (الجمهورية الإسلامية).

ولكن بالإضافة إلى هذا كله، أود في هذه المقالة الحديث عن (مضحكة) جديدة أخرى في عراقنا السعيد، ألا وهي النظام التعليمي. فالمعلوم أن المدارس والجامعات هي التي تخرج موظفي ومدراء وسياسيي المستقبل، فإذا كان النظام التعليمي جيداً كانت المخرجات جيدة واتسمت مؤسسات الدولة بالنزاهة والشفافية وحسن الأداء ونسب الإنجاز العالية. أما إذا كان النظام التعليمي رديئاً (مسحسلاً) كانت المخرجات رديئة و(مسحسلة) تباعاً واتسمت مؤسسات الدولة بتفشي الفساد والنفاق وسوء الأداء وانعدام الإنجاز في مسرحية كبيرة طويلة عريضة اسمها العراق!

وليس القصد هنا هو الطعن بالكفاءة العراقية بشكل عام، فمعظم جماعتنا العراقيين الذين هاجروا إلى الدول الغربية التي تحترم الإنسان وتوفر له بيئة العمل والإبداع، أصبحوا هناك من الناجحين جداً في أعمالهم وتخصصاتهم وكثير منهم ممن حصلوا على جوائز وأوسمة رفيعة في تلك الدول. المشكلة ليست في العقل العراقي أو في رغبة الإنسان العراقي في الإبداع يا جماعة الخير، المشكلة في البيئة العراقية المدمرة التي هي نتاج حروب الطاغية المقبور وتركة نظامه البائد التي لا تزال جاثمة على صدورنا اليوم في بلد أصبح اليوم من أكثر بلدان العالم تخلفاً وفساداً وانحطاطاً ولا حول ولا قوة إلا بالله.

نبدأ بالمدارس، الصف الواحد في المدرسة الابتدائية يستخدم لإيواء ما يزيد على 50 طالباً وطالبة في غرف ضيقة تفتقر لأبسط خدمات الماء والكهرباء والمجاري وتنظر إلى مدرسة ابتدائية أو إعدادية في بغداد أو إحدى المحافظات العراقية فكأنه كوخ في إحدى قرى الصومال أو تنزانيا أو الموزامبيق.

الدراسة بنظام ثلاث ورديات أو (شفتات) في اليوم، 3-4 ساعات لكل وردية ثم تأتي الوردية التي تليها، أي أن الطالب يداوم يومياً ما لا يزيد على 3-4 ساعات في ظروف تعليمية مضحكة من حيث التسيب المدرسي وغياب المدرسين في رحلات (الزيارة) والحج وغيره وتفشي الغش وأوراق (البراشيم) على أرضيات القاعات الامتحانية وخوف المدرس من تهديدات الطالب، أضف إلى ذلك أن معظم أيام السنة لدينا هي عطل دراسية ورسمية ودينية وأيام حظر تجوال وغيره، وللقارئ الكريم أن يتخيل جودة المخرجات الناتجة عن هذه العملية (التعليمية).

امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) أصبحت بدور أول وثاني وثالث وقريباً إن شاء الله بدور رابع أيضاُ لتنجيح الراسبين (بأمر) من دولة رئيس الوزراء وفرسان حكومة (بعد ما ننطيهه). الجامعات الأهلية أصبحت كمعاهد الدورات وبإمكان الطالب الناجح من الدور (الثالث) بمعدل 60% أن يدرس أرقى التخصصات كالهندسة المدنية أو الكهربائية أو القانون وغيره وبدوام مسائي (نص ردان) ساعتين في اليوم لشهرين في السنة بعد اقتطاع العطلات والإجازات الرسمية التي لا بلد في العالم يتفوق على العراق فيها بحمد الله ومنته، وموتوا بغيظكم أيها الحساد!

وكذلك الحال في الجامعات الحكومية، الدوام 3 أشهر في السنة بعد اقتطاع العطلات والإجازات السنوية، والامتحانات النهائية أيضاً بدور أول وثاني وثالث وغداً دور رابع. رأيتُ بعيني خريجي قسم الآداب اللغة الإنكليزية لا يعرفون أبسط قواعد اللغة الإنكليزية، ناهيك عن فنون البلاغة والتعبير وغيره. وخريجي كليات علوم الحاسبات لا يعرفون من استخدام الحاسوب سوى مبادئ الويندوز و(الانترنيت) و(الفيسبوك)، دع عنك برمجة الحاسوب وصنع التطبيقات وغيره.

وكذلك الحال بالنسبة لخريجي الهندسة والعلوم. أما خريجي كليات القانون والإدارة، فيكفي أن تطلب منه كتابة بضعة جمل أو فقرات باللغة العربية (إي والله بالعربي يا عالم، وليس بالإنكليزي ولا بالصيني) لكي ترى رداءة الخط وكثرة الأخطاء الإملائية والنحوية، وهم سياسيو المستقبل الذين سيحققون لنا مجتمع الكفاءة والعدالة في عراقنا الجديد.

ذهبتُ قبل عامين لزيارة إحدى كليات جامعة البصرة، فكأنما بي داخل إلى حسينية أو حوزة دينية. الجدران (ازدانت) بصور العمائم السوداء وأقوالهم التاريخية وأحاديث نبوية وتحذيرات شديدة اللهجة للطالبات (المتبرجات) غير الملتزمات بالحجاب الشرعي وغيره (وقد أعذر من أنذر). أما جودة النظام التعليمي والقضاء على مظاهر (الطرطرة) والتسيب والفساد والغش وغيره، فهذا ليس من أولويات جماعتنا. المهم الحجاب الشرعي (المضبوط) تمهيداً لتحقيق الهدف القادم المتمثل في فصل الذكور عن الإناث في الجامعات وهي المكان الوحيد في العراق الذي يتمكن فيه الفتيان والفتيات من رؤية بعضهم البعض ولو (من بعيد لبعيد) يعني.

الأستاذ الجامعي مثله مثل المدرس في المدارس الابتدائية والإعدادية النهارية والمسائية، لا يداوم في اليوم سوى ساعتين أو ثلاث ساعات لبضعة أشهر في العام، وما غير ذلك من الوقت فهو يخصصه لخدمة مصالحه الشخصية من تدريس خصوصي ومعاهد (تقوية) والعمل في التجارة وممارسة النشاط الديني أو السياسي، والضحية هو الطالب دائماً.

أما الدراسات العليا، فالجامعات العراقية أصبحت بحمد الله ومنته و(على عناد اليعجبه والمايعجبه) تمنح اليوم أرقى الدرجات العلمية من دكتوراه وماجستير في تخصصات جبّارة كالطب والهندسة والعلوم وغيرها على نحو تضاهي فيه كبريات الجامعات الأمريكية العريقة. ثم يصبح أولئك الدكاترة الجدد أساتذة جامعيين تتخرج على أيديهم أجيال المستقبل. اللغة الإنكليزية التي هي اليوم لغة العلم، الأكثرية الساحقة من خريجي جامعاتنا اليوم لا يعرفون أبسط قواعدها رغم أن دراسة التخصصات العلمية ومناهجها وامتحاناتها في جامعاتنا هي (بالانكليزي) على أيدي أساتذة وطلبة معظمهم ليس بإمكانهم صياغة جملة مفيدة واحدة صحيحة باللغة الإنكليزية.

باختصار، أصبحت مدارسنا وجامعاتنا اليوم هي عبارة عن مطابع للشهادات الدراسية.

المباني الجامعية ليست أفضل بكثير من المباني المدرسية. المختبرات هزيلة من عهد السبعينات والثمانينات. المناهج قديمة عقيمة أكل الدهر عليها وشرب رغم صعوبة الامتحانات الجامعية في بعض الأحيان ولكن العبرة ليست في الصعوبة بل في الفائدة. التطبيق العملي مفقود، وعملية التدريس والدراسة برمتها عبارة عن مسرحية لطلبة وأساتذة ومعيدين (رايحين جايين) لا فائدة منهم إلا القليل منهم ممن رحم ربي وأدرك بذكائه كذب هذه المسرحية واعتمد على اجتهاده الشخصي للتعويض عن القصور الهائل في النظام التعليمي العراقي بالمقارنة مع مثيله في باقي بلدان العالم المتخلف كالأردن وسوريا ومصر والخليج، دع عنك المتقدم منها.

وقد أدركت بعض دوائر الدولة الهامة كمؤسسات النفط والغاز والصلب هذه الفجوة الهائلة بين التعليم الجامعي والتطبيق العملي، فلجأت إلى طريقة أخرى جيدة ولا بأس بها للنهوض بمستوى كوادرها العاملة لديها، ألا وهي طريقة (الإيفادات) إلى الخارج في دورات علمية وعملية للتدرب على تشغيل وصيانة أنواع معينة من الأجهزة لدى مصنّعيها في الدول الغربية المتقدمة. ولكن معظم هذه الإيفادات هي الأخرى عبارة عن رحلات سياحية يذهب بها موظفون من غير ذوي الاختصاص ومن أصحاب الحظوة لدى صانع القرار، ويندر أن تجد أحد العائدين يتحدث لك عن اسم ومحتوى الدورة التي حضرها في الخارج (هذا إن كان يتذكر اسمها أصلاً) والفائدة العلمية والعملية التي حصل عليها من تلك الدورة. كل ما تراه عند عودتهم إلى العراق هو صفحات الفيسبوك الخاصة بهم وقد امتلأت بصور الأماكن والسفرات السياحية والترفيهية وغيرها، أما الهدف الأساسي من الإيفاد نفسه فلا ذكر له إطلاقاً!

لا أستطيع في هذه المقالة البسيطة اقتراح حلول لهذه المشكلة العويصة، فالتنظير عبر شبكة الإنترنت سهل ولكن التطبيق على أرض الواقع العراقي صعب. يكفي أننا أشرنا في هذا المقال إلى الوضع العام للنظام التعليمي السيء جداً في عراق اليوم. ولا أغالي إذا قلت بأن مستوى التعليم في العراق اليوم هو الأسوأ على الإطلاق في الدول العربية وبلدان الشرق الأوسط، ولا مفر لنا من الاعتراف بهذه الحقيقة إذا كنا فعلاً نريد النهوض بواقع بلدنا نحو الأفضل. فطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وأول خطوة هنا هو أن نعترف كعراقيين بهذه الحقيقة المرة بدلاً من التمشدق الفارغ بأننا (أهل الحضارة) وأننا من اخترعنا الكتابة التي تعلمها منا غيرنا ونسيناها نحن أنفسنا!

وبعد تشخيص المشكلة والاعتراف بوجودها ومدى خطورتها، تأتي الخطوة القادمة ألا وهي التفكير في كيفية حل المشكلة وبدء العمل الدؤوب للمضي قدماً بتنفيذ الحل، وهذا شأن الاختصاصيين في مجال التربية والتعليم وليس شأني، وهي عملية طويلة ومعقدة وتخضع دائماً للنقد والتصحيح المستمرين سعياً نحو الأفضل الذي نتمناه لوطننا الجريح وشعبه الصابر، والله من وراء القصد على كل حال، له في خلقه شؤون وإليه تُرجع الأمور.