في الظاهرة العنفية عراقياً

 

في طريقه إلى واشنطن بدعوة من نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، صرّح رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن أحد أسباب زيارته هو طلب مساعدة الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، وهو ما أكّده لدى اجتماعه بالمسؤولين الأمريكيين وما كتبه في صحيفة “نيويورك تايمز”، في إطار تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين في العام ،2008 وقبل ذلك قال مستغيثاً إنها “حرب إبادة”، الأمر الذي يذهب إليه جميع الفرقاء، المؤتلفين والمختلفين “الأخوة الأعداء” مع الاعتذار لكارامازوف، فالموت الصامت أصبح مشهداً يومياً مألوفاً مثل قهوة الصباح، وأعداد الشهداء يسمعها الناس كخبر في نشرات الأخبار، لأنها عامة وشاملة ومتكررة كل يوم .

صحيح أن العنف يصاحب دائماً كل أزمة عميقة وتغييرات عاصفة، سواء على المستوى الاجتماعي أو على المستوى الفردي، لكنه أن يصبح ظاهرة مألوفة، فهو أمر غير طبيعي وغير منطقي، وحتى لو حدث ذلك باعتباره من إفرازات أزمة مجتمعنا الذي عانى الاستبداد والحروب والحصار والاحتلال، إلاّ أن ذلك لا يبرر تحوّله إلى أمر مستديم في المجتمع يقيم مع السكان ويواجهونه كل صباح ومساء .

وإذا كان الأمن مسألة سياسية، فهذا يعني عدم إمكانية استتبابه من دون حلول سياسية جذرية، وهذه تحتاج إلى توافقات وتفاهمات ومصالحات مجتمعية ووطنية، وفي إطار نهج سلمي تسامحي، مع اللجوء إلى تطويق الظاهرة أمنياً واستخدام ما هو مناسب من خطط أمنية وعسكرية واستخبارية لوضع حدٍّ لها . وعلينا أن نلاحظ أن ظاهرتي العنف والإرهاب تستفحلان كلّما ساءت علاقات القوى السياسية مع بعضها، وخصوصاً إذا اتخذت بُعداً إقصائياً، ولأن تظاهرات الأنبار التي امتدت إلى أربع محافظات أخرى وشملت أجزاء من بغداد، وانتقل بعضها إلى محافظات ومدن عراقية أخرى، وإنْ كانت هناك بعض الاختلافات في المطالب، لكنها خارج نطاق السياسة تجمع على تردّي الخدمات، لا سيّما الكهرباء والماء الصافي والخدمات الصحية والتعليمية، إضافة إلى تدهور البنية التحتية سواء الطرق والجسور وخطوط المواصلات والاتصالات وغيرها، يضاف إلى ذلك انتشار الفساد المالي والإداري والرشاوي على نحو أصبح الحديث عن النزاهة، أقرب إلى النكتة .

وتزداد الفضائح التي تزكّم الأنوف كل يوم في دائرة المسؤولين والمقربين منهم دون وضع حد لها، ليس هذا فحسب، بل إن المسألة الطائفية تطل برأسها بين الحين والآخر، وإن كانت مقيمة في النفوس ومعششة في العقول وجاثمة في الصدور، وهو الأمر الذي ينعكس على جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها، ويزداد الشعور بالغبن والحيف والتمييز لمناطق بكاملها، وهو ما يوفّر بيئة صالحة لتفقيس بيض العنف وتفريخ الإرهاب على نحو مستمر، خصوصاً مع استمرار وجود معتقلين تقرّ الدولة بأن الكثير منهم أبرياء، وهو ما أظهرته عمليات إطلاق السراح التي أعقبت التظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية في محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وغيرها .

إن سسيولوجيا العنف تتوزع على خارطة طريق تحوي خليطاً غير متجانس، سواءً في مصادره أو في أهدافه، خارجياً كان أم داخلياً، وسواءً انتمى إلى تيارات متشددة إرهابية معروفة مثل تنظيمات القاعدة أو اتخذ هدفاً سياسياً ضد الخصوم أو الأعداء أو استهدف التخريب السياسي، فإن هناك عناصر وقوى أخرى إجرامية محترفة، ويقع بين هاتين المجموعتين الواسعتين، مجموعة ثالثة، هي أقرب إلى قوى مجهولة، تلك التي تستغل الخلافات السياسية، فتؤجج نار الصراع وتدفع الفريقين المتصارعين أو الفرق المتصارعة إلى المزيد من الاحتراب، بتفجير جامع سني وفي الوقت نفسه مسجد شيعي، ومرفق تركماني وآخر كردي، إضافة إلى استهدافات المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين والشبك وغيرهم، بحيث أن العنف ضرب المجتمع العراقي كلّه بالصميم .

ولعلّ جغرافيا العنف اليوم مصنّفة بين الداخل والخارج، فالعنف الذي انفلت في سوريا انعكس بصورة شديدة على العراق، وما قيام تنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام (داعش) إلاّ دليل على هذا الامتداد الواسع، وأعلنت قيادة إقليم كردستان أن تفجيرات إربيل مؤخراً لم تكن بمعزل عن هذا التمدد الإرهابي، ويمتد العنف من مناطق شمال وغرب العراق إلى جنوبه، في حركة متّصلة، ويزيده قدرة الانقسام السياسي وتردي وسوء الخدمات والتذمّر الشعبي .

لعلّ جذور العنف الحقيقية تتمثل في البيئة الاقتصادية والاجتماعية الحاضنة، خصوصاً في المناطق الفقيرة التي تعاني الجهل والأمية والبطالة والفقر، تلك التي تمثل انتهاكاً لكرامة الإنسان واعتداءً على حقه في الحياة الكريمة، ويبلغ عدد السكان دون خط الفقر حالياً نسبة حوالي 20% . وقد كان الإهمال الطويل الأمد للتنمية سبباً أساسياً في ذلك، لا سيما الحروب التي خاضها العراق منذ الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) ومن ثم غزو الكويت وحرب قوات التحالف ضده (1990-1991) وفي ما بعد استمرار الحصار الدولي الجائر لمدة تقارب من 13 عاماً، وأخيراً وليس آخراً احتلال العراق في العام 2003 ومواجهة تحديات جديدة متمثلة في الاحتلال والدور الإقليمي الجديد في الداخل العراقي، لاسيّما من جانب إيران، إضافة إلى استشراء الطائفية وتشظي المجتمع العراقي وانتشار الميليشيات واستفحال العنف والإرهاب، وخصوصاً عند فتح الحدود على مصراعيها في العام 2003 وما بعدها، والإذلال الذي تعرّض له العراقيون من خلال ممارسات الاحتلال، إضافة إلى الفساد المالي والإداري، واستمرار هدر المال العام وتبديده .

إن تحويل العراق إلى ورشة عمل حقيقية للتنمية المستدامة بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية، وتوفير فرص عمل وسكن إعماري بالمعايير الدولية المتفقة مع متطلبات مجتمعاتنا، وما يتفرّع عن ذلك من مشاريع التطوير والتنمية في عموم العراق، تستطيع أن تساهم، مساهمة كبرى، في التصدي للظاهرة العنفية، ذلك أن مقاومة العنف ومكافحة الإرهاب تحتاج إلى منظومة متكاملة من السياسات والتوافقات الوطنية، في إطار خطة طريق شاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً وإعلامياً وصحياً وقانونياً، مثلما تحتاج إلى قدرات أمنية وتأهيل استخباري، وقبل كل شيء إلى إرادة سياسية موحّدة .

ولا بدّ هنا من تأكيد أن الأمن لا ينبغي أن يتعارض مع الكرامة أو يتجاوزها، مثلما ينبغي على الأمن أن يحمي الحرّية ولا يضيّق عليها أو ينتقص منها تحت أي سبب كان . ولعلّ ذلك كلّه يمكن أن يؤتي ثماره الآنية والبعيدة المدى، إذا سارت الدولة في إطار مدني، سلمي، يحترم سيادة القانون والمواطنة الكاملة والمساواة التامة، على أساس من المشاركة وعدم التمييز أو التهميش أو الإقصاء، بما يحقق تكافؤ الفرص والعدل الاجتماعي .