أنا المبعوث على رأس كل مائة عام لإصلاح هذه الأمة.
كنت أردد هذه العبارة مع نفسي مرات ومرات، وأنا متجه إلى قريتنا، حيث سيصادف العاشر من محرم، ممتلئ بالسعادة والفخر على ما سأقدمه من إصلاحٍ للأمة. المواكب على يمين الطريق ويساره تسير، وأنا أشخّص ببصيرتي الثاقبة مواضع الشبهات ومواطن الخطأ، حتى اتناولها في بحوثي ونقاشاتي مع أهل الحل والعقد. كنت أهزّ برأسي كمن يتوعد بأمر. بعد قليل أدار سائق الكيّة شريطاً للّطم بصوت عال، يكاد الذي بجنبي أن لا يسمعني، وتفاعل معه كبقية الركاب. كانت فرصة لي لأتمرن على طرحي، رفعت يدي مستأذناً للحديث، ظلت مرفوعة بكل أدب ووقار والسائق يلطم على صدره ويشير نحوي من المرآة باللطم معه. عجوز جنبي برائحة الجنوب الرهيبة، رائحة التنور والخبز والعَرق، تضرب على رأسها بكل هدوء وهي تردد: يُمّه سودة بوچّي، عمت عيني، سودة بوچّي. هذه العجوز انتبهتْ إلى يدي المرفوعة فكلمتني من تحت أطلال عباءتها: يُمّه شمالك انته؟ أشو شلت إيدك وبعد ما طاحت على صدرك؟ احترمتُ سؤالها، وأجبتها: لا عفواً حجية، بس عندي مُداخلة ويّه السايق.
حركتُ يدي لينتبه السائق، فانتبه، قلت له: لو عندك شريط قرآن مو أحسن بهاليوم الحزين؟ تره مدنفهم شديگول. أجحظ عينيه وسألني: يعني أطفّي اللطمية؟ تريدني أطفي اللطمية؟ أنت وهابي ولك؟ أكيد أنت من عندهم. وبدأ بتخفيف سرعة السيارة ليتوقف.
سمعَ الأخوة المرافقون، الجالسون عن اليمين والشمال كلمة وهابي، فتصرفوا معي بنوع من الخشونة والحداثة، وجدت نفسي في نهاية الحوار خارج العربة، دون أن تُفتح بابها.
ركبتُ عربة أخرى، كانت للحمل، سائقها ملثم ويلطم، لم يوجد في سيارته أيّ صوت لأيّ ناعٍ، لكنه كان يلطم، بهدوء وترتيب، ينظر إليّ من بين اللثام بين فينةٍ وأخرى بعين واحدة حاقدة.
قلت له: هل تعلم أن أصل اللطم هو من الهند، وأحد البحوث تؤكد أن التطبير والزنجير من أسبانيا (كان صوتي يختلط بصوت المحرك العالي والهواء والتراب) من بعض الصليبيين الذين يؤنبون أنفسهم على ما جرى على السيد المسيح، وهذه العادات والتقاليد نُقلت إلينا رغماً عنا، فهي طارئة وليست متأصلة.
طوال حديثي لم يقف السائق عن اللطم والالتفات نحوي. حتى هزّ رأسه بصيغة السؤال: وبعدين؟ إنّه يلطم بكفٍ ويمسك المقود بكف.
قلت له: نخشى ما نخشاه، أن يضيع تراث آل محمد عليهم السلام بالمرّة، وسط هذا الكم المتصاعد من الشعائر المبالغ فيها، وأن تعطي الأجيال القادمة ضريبةً قاسية في النفور من الدين.
كنا على مشارف قريتنا، نطقَ السائقُ وأوقف السيارة: أنت تشتـقـل بالضريبة ولك؟ افتح الباب یَوَل. فتحتُ الباب من الداخل، قال: باوع عالرصيف. بعدها وجدتني على الرصيف إثرَ ضربة لا أدري كيف تلقيتها.
دخلت قريتنا.. يا إلهي، ما هذه الحشود؟ ما هذه الأصوات والطبول؟ أينما تلتفت فثمّ سواد، وثمّ صراخ، وثمّ من يضرب على رأسه وصدره وظهره.
الضجيج يعلو الطرقات، الصراخ يملأ الحارات، الضرب والسيوف والدماء، مشاهد تروع الآفاق. تحركتُ وقررتُ التفاعل مع الأشياء، كان هناك صفان من الواقفين، بينهما مَمّرٌ للمواكب والتشابيه، وسط ضجيج وانفعال، قررتُ كسرَ هذا الحاجز. بحثتُ عن صفيحة دهن أو صندوق خشبي اعتليه، وحين اعتليتُه، انتبه مَن حولي إليّ، فتكوروا منتظمين، فحمدتُ الله على انتباههم، لكن أولهّم خلع رداءه وبادرَ إلى اللطم، سألته: ليش؟ شكو؟ قال (ولم يزل يلطم بهدوء): دا أحمّي للّطم مولاي، لحد ما تحظّر القصيدة ونحفظ المُستَهل.
كبُرت الحلقة، فقررت أن أخطب فيهم خطبة الإصلاح: أيها الناس، هل تعلمون أنّ ابن الأثير في الكامل، والطبري، وصاحب الأخبار الطوال، وعدد من كتب التاريخ وكذا اليعقوبي لا يذكرون كثيراً من أحوال الحسين عليه السلام؟
توقفوا عن اللطم وانصتوا، لكن بحذر ممزوج ببوادر غضب بدائية.
أيها الناس إنّ ابن الأعثم في كتاب الفتوح، يذكر بعضاً من ذلك، وكذا الواقدي، وكذا بن قتيبة، فالمطلوب منكم أن تراجعوا التاريخ لتدققوا فيه، وهو أشرف وأنبل تاريخ.
تقدم أحدهم وقال لي: زّبد المطلب، يعني شنو اللّي تريده؟
قلت: بكل بساطة وأريحية أطلب منكم تخفيف اللطم، والتوقف عن التطبير والزنجيل وإيذاء أنفسكم أحبتي.
قال لي أولّهم: ليا أعثم يابن الأعثم، أنت مبيّن عليك مخبل ومستوي. رمى بحبل أخضرٍ كان معه وربط به عنقي وأنزلني من منبري، أخذني وسط الجمع، حتى وصل إلى بائع للشاي المتربع على الأرض، وشوش في أذنه، ثم ناوشه طرف الحبل، فتلقاه بيده وحشره تحته، نظر إليّ بحقد ما بعده حقد، وهو يغسل أقداحه ويوزع الشاي مجاناً. تحركتُ قليلاً فهزّ الحبل، وأصدر صوتاً لا أذكر بالضبط في أيّ مرعى سمعته.
قلت له: يا سيدي، هل تعتقد أن الأئمة.. قاطعني على الفور: آنـــه موش سيد، وبعدين لا تلغي هوايه، ابن الأعثم ها! وين يزيّن هذا؟ چا أنت بالحسين تندگ؟ والعباس اليوم أخبزك خبز.
صاح المؤذن (الله أكبر.. الله أكبر) تذكرت سـِـيدي عمر، في فيلم عمر المختار وهو مقيدٌ بالأغلال.
قلت: يا عم، هل لي بقليل من الماء لأتوضأ؟
صرخ بوجهي: يا صلاة؟ ليش انت مسلم حتى تصلي؟ ما تشوف هاي الوادم كلها دتلطم؟ أشو بس أنت تريد تصلي؟ هاي هم بن الأعثم ذاكرهه؟ إگعد واسكت.
مرّ موكب للتشابيه، فيه خيل وخيالة، وسيوف، وجوادٌ بلا فارس، كان جواد الشمر، والظاهر أنه فرّ من المشهد، والمتعهد يبحث عن متطوع بديل، وقف أمام الچايچي وطلب مجعة ماء، وهو يردد: اشلون ورطة؟ اشلون مصيبة؟ باقي اشكم متر ونوصل الساحة، وليهسّه ما عندي شمر.
أنا آخذ دور الشمر. قلتها وقمت من مقامي، بس خلصني من هالچايچي.
كأني سقطت على المتعهد من السماء، إذ ناوشه دنانير معدودة وسحبني منه. أدخلني خيمة كانت بالقرب، جردوني من ثيابي ثم ألبسوني ثوباً أحمر فضفاضاً، ذكّرني بليلة عُرسي.
قلتُ للمتعهد: عفواً استاد، هل الدور الذي سؤديه، هو للسيد شمر أم للآنسة شمرة؟ أليست هذه ملابس نسائية؟
ألبس واسكت!.
قلت له: باعتبارك متعهد تشابيه، هل دققتَ في الروايات التي تذكر واقعة الطف؟ هل قرأتَ طبقات بن سعد؟ أم تاريخ بن عساكر؟ أم حققّت في تفاصيل ما جرى وتأكدتَ منه؟
أثناء كلامي، كان المتعهد يدقق في هيئتي، وتناول حنكي ورفعه ليدقق في وجهي بعدما ألبسوني القلنسوة.
قلتُ له ووجهي محشور بين كفيه: ليس كل ما يُذكر على المنابر أو المجالس صحيح، هناك الكثير من المستفيدين الذين يحاولون استغلال اسم الحسين عليه السلام.
قال لي: اشو افتر على نفسك، لا، زين، بس جيبوله چزمة وصعدوه على الحصان.
ركبتُ الجواد وخلفي رافع الراية، يركض ويقول: هذا حصاني على كيفك ويّاه، أخذوه مني بالگوّة وفرغوا النفط كله يم بيت مسؤول چبير بالدولة.
كانت الجموع ترسل اللعنات نحوي، فقلت هذا أنسب وقت للنداء بصوت الحق، طلبت من الجميع السكوت فسكتوا: أيها الناس، هل بهذا تحيون تراث الحسين؟ هل بهذه السيوف والدماء تباهون الأمم؟ تسابقون الزمن؟ تفكون طلاسم الحياة؟ أيها الناس، رفقاً بالحسين، بمصيبة الحسين، بمصاب آل البيت، إنكم والله لتدمون قلب الرسول بتزييفكم للتاريخ هكذا. استمريت بالخطاب حتى خرج من وسط الجمع رجل فيه هيبة العقلاء وقال لي: لكنك يا شمر، قتلتَ الحسين.
نظرت إليه، ونظرت إلى ما نظر فيّ، ونظرت في الجوار، الألوف تصرخ، تضرب الرأس والوجه والصدر والظهر، سحبت أنفاسيَ ومن جوادي ترجلت، صرخت عالياً: إذن، أنا من قتل الحسين وأنتم الآخذون بثأره؟ فيا سماء امطري عليّ غضبك. لم تتأخر السماء كثيراً في الاستجابة، إذ أمطرت عليّ قنادر القوم، وتكاثروا عليّ، حملوا عليّ حملة رجل واحد وتلقيت أطناناً من الضرب والبصاق، حتى انسحبت من بين أقدامهم وأنا أمشي على أربع، بنصف عين دامعة، وأخرى مغلقة لمخالفة تعليمات وزارة السعادة، مزقوا الأتگ الذي أرتديه وأنا أقول: لستُ إذن المقصود بالمبعوث على رأس كل مائة عام، أروح أصلّح پريمزات أحسن.
|