منذ أن تفجرّت الثورة في تونس وبعدها في مصر، ومن ثم في ليبيا ونحن نردّد معهم المقولة الشهيرة: "الدكتاتورية تبنى في سنين وتسقط في لحظات"، وكأن التطور الدراماتيكي المثير في هذه البلدان أراد ان يثبت للعالم أن التغيير ممكن وبأبسط الأدوات، المهم أن تتوافر الإرادة الشعبية المخلصة، وأن يكون هناك استعداد لدفع الثمن، وساعتها سيكون التغيير سهلا، رغم ما يسببه أحيانا من آلام وخسائر في الأرواح والممتلكات، وفي تونس التي دقت فيها ساعة التغيير بعد سنوات من الانتظار على الأقل، في تلك الأيام كنت اسمع ساستها يرفعون شعار دولة القانون فكتبت مقالا قلت فيه: هل سيخدع التونسيون مثلما خدعنا، وهل تصبح أقصى أحلامهم موافقة المسؤول على افتتاح نادٍ اجتماعي للأدباء، أو السماح بإقامة حفلة غنائية على أحد المسارح، وهل ستنتهي تضحيات التونسيين بمثل ما انتهت إليه تضحيات إخوة لهم في العراق لا يستطيعون القيام بمظاهرة أو مسيرة تندد بالفساد والقتل اليومي، إلا بموافقة السلطات الرسمية؟ وهل سيضع أولو الأمر قانونا للأخلاق العامة مثلما يصر رجال دولة القانون تشريعه لنا، وهل سيستجدون الحرية مثلما نستجديها اليوم؟ وكنت أخشى على أشقائنا في تونس من شعارات تنادي بدولة القانون، لأنها شعارات براقة سرعان ما يلتف الساسة حولها فيفرغونها من مضامينها الحقيقية، فينتشر الفساد المالي والإداري وتكشر المحاصصة عن أنيابها لتتقاسم الأموال والمنافع لتحرم الشعب منها. فما مر بتونس مرّ في العراق من قبل حيث بادرت النخب السياسية عندنا قبل الانتخابات بالعمل على تعزيز الخطاب الوطني واتخذت جملة من الإجراءات في إطار إشاعة مفهوم الدولة المدنية وروح المواطنة لدى قطاعات كبيرة من العراقيين. فما الذي حدث بعد ذلك؟ قرر أشاوسة السياسة نسف اللعبة الديمقراطية بأكملها والانقلاب على هذه الخطة، والعودة بالبلاد إلى زمن القرون الوسطى". اليوم يدفع شعب تونس ضريبة شعارات احزاب السلطة مثلما دفعنا، وتحولت تونس من دولة للقانون الى حلبة للصراع.. ليجد الشعب التونسي مثلما المصري والليبي وقبلهما العراقي انفسهم أمام ساسة لا يجيدون غير لعبة "غزو المناصب" وبيع الوهم للناس، من خلال المتاجرة بالدين للوصول الى كرسي الحكم.. حيث تركوا خدمة البلاد ليحدثوا الناس عن عورة النساء وأهمية النقاب وإرضاع الكبير وخطيئة الخروج على الحاكم، واتهام المعارضة بأنهم زنادقة وملحدون، بعد سنتين في مصر وتونس وعشر سنوات في العراق اكتشفت الشعوب ان مسؤوليها وساستها فاشلون بامتياز يريدون ان يبيعوا الكذب على انه منجزات، مستغلين حاجة الناس الى الامن والخبز والاستقرار.. صورة قاتمة ينسج خيوطها عدد من الساسة قدموا مصالحهم على مصالح الناس.. ففي خطاب مثير للاسى اعترف راشد الغنوشي زعيم جبهة النهضة الحاكمة في تونس بوجود أخطاء في الحكم، وقال إن هذه الأخطاء لا تبرر الدعوات للعودة إلى نقطة الصفر رافضا طلب المعارضة تشكيل حكومة غير حزبية، مشيرا إلى أن ذلك لن يساعد البلاد. هذا رجل على رأس حزب ديني، رغم فشل حزبه في إدارة البلاد، يطالب بأن تدار البلاد من خلال أحزاب، ولاؤها الاول لقادتها وليس للوطن خطاب الغنوشي، يكشف لنا، ولو متأخرا أن أحزاب الاسلام السياسي ، لا تجيد سوى نشر الإحباط وقتل الأمل في النفوس. خطاب يقول للناس البسطاء انتم جهلة وناقصو دين، ولو خالفتمونا وعارضتمونا، فانكم سوف تدخلون النار. الغنوشي ومعه إخوان تونس يطالبون بالسلطة، لا العدالة الاجتماعية، يسعون إلى فرص للتسلط لا بناء ديمقراطية، وهم لايختلفون عن إخوان مصر الذين عملوا على قتل الديمقراطية عبر نموذج مرسي سيئ الصيت. دفعنا ولا نزال ندفع أثمانًا باهظة لدولة الغنوشي ومرسي والمالكي، دولة من عصر الاستعباد.. دولة فاشلة.. مستبدة.. كاذبة... دولة كلما تعلقنا بأذيالها سرنا إلى مقابر جماعية. نريد دولة جديدة المواطن فيها اهم من المسؤول، ورئيس مجلس الوزراء موظف لا مبعوث عناية الهية، ومندوب السماوات السبع. الناس تريد عقدا اجتماعيا لدولة حديثة، فيما الغنوشي يريد دولة المرشد الذي يأمر وينهي، وعلى الناس السمع والطاعة، من يتحدث عن دولة أحزاب لا دولة مؤسسات، فإنه داعية استبداد، ليس ذلك فقط، إنه فاتح أبواب للفاسدين وممرات للإرهابيين ومبشر بكوارث انتقالنا إلى قائمة الدول الفاشلة التي يرفع ساستها شعار "ما ننطيها".
|