يعتقد البعض ان الثقافة تعني الادب والفنون المختلفة، وربما لهذا السبب لا تجد تعريفا محددا لهذه الكلمة التي تستطيع ان تضع تحتها، قائمة بالمشاريع الإبداعية والفكرية دون ان تفكر للحظة واحدة ان هنالك فرقا شاسعا بين كلمة ابداع وكلمة ثقافة.
الثقافة سلوك متحضر، سواء تعلق الامر بالابداع الادبي والفني او فن العيش. منذ صغرنا اعتدنا ان نقول ان الشعب الأوربي شعب مثقف، وعندما نريد ان نصف انسانا يسلك سلوكا حضاريا نقول عنه انسانا مثقفا. من هنا اعتقد ان الثقافة هي اهم من كل نواحي الحياة الأخرى، فبفضلها تستطيع ان تبني امة عظيمة وبدونا تكون الامة هشة ومتأخرة.
فكرت بهذا الموضوع، وانا حبيس البيت ليومين متتالين بسبب غرقه بعد هجوم المطر على ارض العراق الجافة، الا من الهم اليومي الذي نعيشه. قرأت لغة التهكم والهجوم على المسؤولين في بلديات بغداد، لغة غريبة وتعليقات مخدشة للحياة ولوم وتقريع واتهامات بالسرقات والفساد يعتقد كاتبها انها هي السبب وراء فيضان بغداد المتكرر، نعم، اعترف ان في امانة بغداد وفي محافظة بغداد وفي كل وزارات ودوائر الدولة العراقية الحديثة هنالك فسادا اداريا غير مسبوق، كذلك في دول كبيرة وعتيدة في التقدم الحضاري تشم روائح فساد هنا وهناك. بريطانيا وفضيحة فواتير مجلس العموم مثلا. ولكن دعونا نكون منصفين قليلا، ألا يتحمل المواطن العراقي بعض المسؤولية أيضا؟
عندما اذهب لأغير زيت سيارتي، يقوم صاحب الورشة بسكب الزيت المستعمل في فتحة تصريف مياه الامطار، كلنا نعرف هذا ونسكت، مشاريع البناء السريعة التي تجري في احياء بغداد بما يعرف بتقسيم البيوت الى بيوت صغيرة ورمي أدوات البناء كالرمل والطابوق على الأرصفة المحاذية لفتحات تصريف مياه الامطار، ألا تساهم في اغلاق هذه الفتحات؟. قال لي مسؤول في البلدية انهم اخرجوا ذات مرة سريرا حديديا من المجاري الرئيسية! عُقد اجتماع لمعرفة الكيفية التي دخل فيها هذا السرير الى حيث وجد. وذات مرة اخرجوا حصانا نافقا من هذه المجاري أيضا. الشوارع مليئة بالاوراق واكياس النايلون، يطيرها الهواء هنا وهناك، في النهاية تستقر على جانب الرصيف لتنسحب بهدوء الى فتحات مياه الامطار، كل هذا يساهم في انسداد هذه المجاري التي أقيمت هي أصلا خارج القياسات المتفق عليها بعد رشوة المهندس المشرف عليها من قبل مقاول المشروع. ماذا تريدون من هكذا مجاري؟ اكيد ان النتيجة فيضان كبير كما شاهدنا قبل يومين، ما الحل؟
بسبب جهل الأنظمة الي تعاقبت على حكم الانسان العراقي تجده في اخر صف التطور الثقافي الحياتي والاحساس بالمسؤولية تجاه بلده، انه يرمي الاوساخ في كل مكان ويصرخ، اين البلدية؟ انه يرى الإرهابي يتجول في المكان ولا يبلغ عليه ويصرخ، اين الامن؟ نحن هكذا يا سادة ولنعترف بالفجيعة. المطلوب دور توعوي لهذا الانسان المسكين الذي نذر نفسه كرها لحروب كارتونية ولحصار مدمر ولارهاب اعمى. الامل باجيالنا يكاد ان يكون منعدما. دعونا ندرب الصغار، أبناء الجيل القادم، لنبدأ معهم منذ رياض الأطفال مرورا بالمدارس الابتدائية وليس انتهاء بالجامعات. نعم، لنعلمهم ان حب الوطن ليس شعارا نكتبه على جدار الواقع او جدار الفيس بك، بل حب الوطن يبدأ بعدم رمي ورقة او حتى عقب سيكارة على الأرض. لنعلمهم ان الثقافة لا تعني الفن والادب فقط، بل تعني ان تتقن فن العيش بطريقة متحضرة، ان تبلغ عن من يسيء الى الشارع الذي تسير عليه، او على الحي الذي تسكن فيه. لنعلمهم ان العراق الذي يعيشون فيه، والمحافظة، والمدينة، والزقاق الذي يسكنونه هو بيتهم الحقيقي، فعليهم ان يحافظوا عليه. لنعلمهم انهم عمال بلدية ورجال شرطة في نفس الوقت، وان الواجب الوطني يحتم عليهم ان يعاملوا الشارع العراقي كما يعاملون بيوتهم من الداخل. علينا يا سادتي ان نرمم العقل العراقي، قبل ترميم مجاري مياه الامطار، علينا ان نعمّر هذا العقل، قبل ان ننادي بتعمّير العراق، عندها فقط، يحق لنا لوم القائمين على امن ونظافة ووجود العراق.
|