يقال بأن جوزيف هايدن قام بتلحين سيمفونيّة الوداع (رقم 45) لسيده الأمير نيكولاوس استيرهاز إحتجاجاً على إطالة بقاء عازفي الفرقة بعيداً عن عائلاتهم بهدف ترفيهه في بيته الصيفي. يظهر الاحتجاج في الحركة الأخيرة من السيمفونيّة ، والتي تبدأ بطريقة تقليديّة لنهايات سيمفونيّات هايدن بإيقاع سريع (Presto) وبمبنى السوناتا، ومن ثم وبطريقة مفاجئة تنقطع نهاية الحركة ليبدأ قسم جديد ذو إيقاع بطيء (Adagio). ويعتبر هذا الانتقال الفجائي وتقسيم الحركة الأخيرة لقسمين، خطوة غير اعتياديّة بتاتاً في الموسيقى الكلاسيكيّة. ويتضمّن القسم الثاني فقرات صولو- يقوم كل موسيقي بعزفها، ومن ثم إطفاء الشمعة التي تضيء منصّة ورقة النوتة ويغادر. وهكذا يغادر جميع العازفين حتى يبقى هايدين، الذي يعزف الكمان في السيمفونيّة، مع عازف الكمان الأول ألُويْس لويجي توماسيني لوحدهما. حتى يفهم الأمير الرسالة، ويسمح لأعضاء الفرقة بالمغادرة إلى منازلهم في اليوم التالي. بالرغم من ذكر هذه القصة كمقدمة ، إلا أننا علي يقين كامل بأن الفرق بين النية الإنسانية لهايدن من عزفه المنفرد والنوايا الخفية للسيد نوري المالكي كبير جداً. فالأخير ذهب قبل أيام الي واشنطن حاملاً جعبة مليئة بالخطايا والذنوب لكسب الثقة والدعم الأمريكي ، متناسياً بأنه هو الذي قام بحمولاته الأيديولوجية و ثنائياته الخلقية بهدم قدسية الوصايا التسعة لإتفاقية أربيل عارض بكل ما لديه من قوة وإيمان الشراكة الحقيقية والمشاركة الوطنية واستهدف معارضيه وخصومه السياسيين بآليات النفي والاستبعاد والإقصاء والإزدراء. أعماله تكشف لنا بأنه لم يتعلم من تاريخ الحكم في العراق أو من أخطاء حكام المنطقة شيئاً. السيد المالكي لم يصل بعد دورتين من الحكم الي النتيجة القائلة بأن مصدر قوة الحكومة يجب أن يكون الشعب في الداخل لا الأنوار القدسية الآتية من دول الخارج. وفيما يخص التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية و جمهورية إيران الإسلامية فإنه سوف لايكون لصالح تخميناتە الغير واقعية والمتعلقة ببقاءه في سدة الحكم في العراق. العالم يتغير الآن بأفكار وآليات وفاعليات جديدة يعاد معها ترتيب العلاقة بين عناصر القوة الثلاثة: المعرفة والثروة والسلطة ، لکن ما يريد السيد المالكي صرفه في التسليح العسكري كشراء طائرات الأباتشي أو طائرات بلا طيار أو الأجهزة المخابراتية الفاشلة بحجة مواجهة ومكافحة الإرهاب هو هدر للثروات الطبيعية والإنتاج النفطي ، التي هي ملك لجميع أفراد المجتمع والتي يمكن إذا صرفت في البناء المدني والعلمي ببعد إستراتيجي وإجتماعي معاصر سوف تقود البلد الي الإستقرار والأمان. رهانه من أجل الحصول علي الدعم الأمريكي لدورة ثالثة يكون من غير جدوي ، طالما هو بعقلە الأونولوجي ومنطق الإستلاب لا يستطيع قراءة المستجدات المحلية والدولية و واقع المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق. إن تبني رئيس الحكومة الأساليب التفردية كمشروع في إدارة السلطة في العراق هو كإعادة عقارب الساعة الي الوراء و سعي لإعادة الصورة المشوهة للعراق تحت ظل الزعيم الأوحد والقائد الأسطوري المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال. إن عدم إلتزامه بإتفاقياته مع حلفائه في العملية السياسية وبالأخص مع التحالف الكوردستاني ، التي ساعدت علي تشكيل الحكومة العراقية ، عقؔد عملية إدارة العراق بشكل يهدد الآن وحدتهم الوطنية المشودة. ومن غير تفكيك الترسانة المنطقية المصنوعة بمفردات الكلي والضروري والأحادي والمتعالي والماهوي ومن غير العمل علي خلق لغة مشتركة أو وسط للمداولة أو مساحة للمبادلة في هذا المجال أو ذاك و ذلك باحياء النصوص الدستورية وتنفيذ موادها وخاصة المادة 140المهملة حالياً من قبل بغداد ، لا يمكن الخروج من عنق الزجاجة و لايمكن جعل الحياة في هذه البقعة المليئة بالخلافات المبنية علي أسس الطائفية وامبراطورية المذاهب والعقل القوموي العروبي أقل بؤساً وفقراً أو أقل توتراً وعنفاً. فإدعاءات التأله والقبض في زمن الإنفجارات التقنية والطفرات المعرفية لا تثمر شيئاً والشعارات تحيل أخيراً الي تنانين فكرية تولد الاستبداد والفساد و تنتج التوحش والخراب. فالعزف المنفرد للسيد المالكي علي أوتار التسلح ، التي تعيد إنتاج النزاع والحروب لا يعني سوي الإعداد لتقديم سيمفونيّة الوداع والإنتخابات القادمة سوف تشهد علي مانقول. وختاماً: السياسة هي صناعة شريفة إذا ما أحسن أصحابها سوس البشر علي قانون مقبول أو مجمع عليه ، أو إذا ما أحسنوا تدبير شٶون المجتمع وقودهم نحو الأصلح. لكن هناك من يري فيها مجال لإنتاج القوة والهيمنة والتفاوت أو أداة لإنتهاك الحريات وغصب الحقوق وسوق البشر الي الطائفية أو ومعسكرات الإعتقال أو الي خطف الأبرياء أو البدء في الإستعداد والتجهيز لحروب بأسم الوحدة الوطنية يمكن أن يقع ضحاياها القائمون بها، كما دلؔت التجارب في العراق ماضياً وحاضراً.
|