سُرّ ما خَطرْ!!(3, 4)... د.صادق السامرائي

 

 

 

 

 

 

كان النهر يجري في سامراء , والأيام تتناغم مع ألحان الجريان , وتتنفس مع الأمواج.

والشمس تتضاحك عند الغروب

والأطيار تزدحم مصدحة في غابات القصب الخضراء

والأسماك تتقافز

وأناشيد الصيادين تخترق صمت المساء الجميل

وتلونه بالعذوبة والأمل

وتطعمه نبيذ الحياة

وعندما أخذت أفتش عن أنهار طفولتي وصباي

وجدها أرضا جدباء!

 

بعد ربع قرن

رحت أبحث عن كهف القاطول الذي كان

صاخبا بالحياة والأطيار والصخور الشامخة

المسرورة بقبلات أمواج الماء

ونسمات الهواء العبقة

ومضيت أحدق بوجودٍ يائسٍ بائسٍ

فانهالت الذكريات

وإنبثق نزيف الأيام من أبهر

وعي الذات والمصير

أين السن العالي؟

أين السن العريض؟

أين ملامح ذلك الكهف البهيج؟

تساءلت وأنا أوّدع مرابض روحي

وينبوع إدراكي وعناصر أفكاري

وفضاء خيالي؟!

 

نهر السين أثار ذكريات عقود

إنسكبت كالشلال في خلجان وجودي

فاندلقت الأيام من مكامنها المجهولة

ووجدتني أسبح في الماء

وأقفز من أعلى صخرة

وأصيد الأسماك  والأطيار

وأجالس الغروب في بلم (سيد مصطاف)

وأتنعم بمساءات فياضة بالهدوء والغناء

وموسيقى أمواجٍ حالمة

وتغاريد أطيارٍ عاشقة

وأعبق نسمات عصور وأفكار دهور!

-4-

كان لدجلة نبض دفاق في أعماقي

وكانت أمواجه أغنيات

تتردد في خيالي

وتتخلق أشعارا وأناشيد

وأجدني اليوم بلا نهر تواق الأنغام

وفي روحي نداءات أشواق ورحيل

وما تغيّرت ذاكرة المكان

فهو موجود في مسلة الرؤى

ومعلقات الخلود

فلن تقهر الذاكرة المتيمة بالحياة

عواصف رمالٍ صيفية!

 

ضفاف النهر ذات جمال أليم

لحضور ضفاف النيل والنهرين

فلا يمكن المقارنة ما بين الحالتين

ضفاف النيل بائسة

والنهرين حزينة باكية

وهنا ضفاف تقهقه من فيض البهجة والسرور

وتدفقات الحياة المتنوعة 

وروافد الأفكار المتوجة بجواهر الجمال

وألوان الإبداع والبناء الزاهي بالفن

المتوافق مع زهو النهر وكبرياء روعته

وسطوة بهائه وفتنته الأخاذة!

 

كأن النهر يراقبني بعيون الدهشة والإستفهام

ويتساءل عن هذا الزائر العجيب

الذي لا يعرف الإبتسام للأمواج

ولا يفهم لغة الفن والجمال

وشعرت بأنه يحسبني بدوي صحراوي

يجهل معنى النهر

ولا يمكنه أن يقرأ أبجديات أمواجه

ولغات جريانه

وأناشيده الصداحة على أكتاف المياه!

 

كان النهر سعيدا

ودقات قلب الزائر الغريب

مضطربة الخفقان

فما تعودت أن تكون في نهر متواصل الإبتسام!