الخداع الإيديولوجي والصراع السلطوي في العراق

 

عندما تحدث المؤرخ الامريكي الفلسطيني الأصل حنا بطاطو في كتابه القيم العراق، الجزء الثالث، عن الأحداث الدامية التي شهدتها كركوك في عام 1959 قال في جملة سرده الطويل لتلك الأحداث ما يلي: " كان للشيوعيين دور ناشط في انفجار الأحداث، ولكن كأكراد، لا كشيوعيين، ولم تكن الأهداف التي سعى هؤلاء إلى تحقيقها أهدافا شيوعية، بل كردية. وكانت شيوعيتهم في معظم الحالات، شيوعية سطحية. ويبدو أن ما حدث، في الواقع، كان أن الأكراد طوعوا كل المنظمات المساعدة للحزب الشيوعي لخدمة أغراضهم، أي لخدمة نزاعهم القاتل مع منافسيهم التركمان".

إن السؤال الذي يفرض نفسه عند التأمل في هذه الكلمات، هو هل أن الأكراد العراقيين فقط والشيوعيين العراقيين فقط استغلوا الايديلوجية لخداع الناس بها، واستثمارها لخدمة أغراض شخصية أو فئوية أو عرقية أو مناطقية أو دينية؟. الجواب هو كلا فعلى مسيرة التاريخ الطويل للنشاط الحزبي في العراق، تجد أن المبادئ الأيديولوجية يتم اغتيالها من قبل الطبقة السياسية المتنفذة داخل كل حزب سياسي، بل ويتم تجريدها من معانيها، والعمل على تحريفها لخدمة أغراض أخرى غير تلك المرفوعة والتي يتم تعبئة الناس على أساسها، فقد خدع حزب البعث العراقي الشعب العراقي والعربي لمدة تتجاوز الثلاثين عام بخدعة ايديلوجية مفادها توحيد العرب تحت راية واحدة ودولة واحدة، فمارس قادته أبشع المجازر، وارتكبوا أسوء الحماقات السياسية في التاريخ، واوجدوا أسوء الطغاة وأعنفهم، وأقاموا أقسى المؤسسات الأمنية والبوليسية، بحجة تحقيق إيديولوجيتهم المزعومة، لكن حقائق التاريخ البعثي تشير إلى أن الجناح القطري الذي مثله البكر – صدام عمل بشكل ممنهج على القضاء على أي جناح أو رأي قومي يسعى لتحقيق ايديلوجية الحزب المعلنة، بل كانوا يعدون وجود مثل هذه التوجهات حسنة النية أحيانا تهديدا خطيرا لوجودهم في السلطة، يستحق دعاتها القتل والاتهام بالخيانة العظمى، فكان شعار الحزب وقادته ودعايته شي وحقيقته شي آخر، إذ لم يسهم حزب أو قيادة في تمزيق شمل العرب وبعثرة ما تبقى من أمل لتوحيد إرادتهم بمثل ما ساهم به حزب البعث والقيادة في العراق، ولم يخدع شعب بدعاية ايديلوجية تستنزف قدراته لمصلحة ثلة سياسية فاسدة ومتسلطة بمثل ما خدع شعب العراق في تلك الفترة.

وبعد سقوط نظام البعث تحت مطرقة الغزو الأجنبي الخارجي والمقت الشعبي الداخلي، ومجيء نظام جديد للحكم قائم على التعددية الحزبية والتنافس السياسي الحر، تجد أن بعض الأحزاب السياسية والقيادات الحزبية على اختلاف مسمياتها وعناوينها، لا زالت تغتال مبادئها الايديلوجية وتستثمر أطروحاتها الفكرية لأغراض خاصة مرتبطة بلعبة المصالح والصراع على السلطة والنفوذ، نعم ويعبأ الشارع الشعبي بمختلف الشعارات البراقة الخادعة لتحقيق هذه الأغراض، فعلى سبيل المثال، يدرك المراقب والمحلل لمعطيات الوضع السياسي العراقي على مدار العشر سنوات المنصرمة، أن السمة الغالبة للأحزاب السياسية المتسيدة على المشهد السياسي هي أنها أحزاب عقائدية إسلامية، لكن عند استثناء الجانب الدعائي لنشاط هذه الأحزاب المرتبط بفتح القنوات الفضائية ذات السمة الإسلامية، والمشاركة في الطقوس والشعائر الإسلامية، والحرص على إعلان احترام المرجعيات الإسلامية، وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحافل تحت شعارات إسلامية وما شابه ذلك، فان هذه الأحزاب لم تقم بجهد يذكر لإعادة تنظيم الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة ومنظومة القوانين بما يتوافق مع ايديلوجاتها الإسلامية، فلا زال الاقتصاد الربوي هو السمة الغالبة للاقتصاد العراقي.. ويفتقر الاجتماع والثقافة العراقية إلى ترسيخ مبادئ العدالة والعدل والنزاهة والتعاون على البر والاعتدال وغيرها من المبادئ التي جاء بها الإسلام وترسيخها والعمل استنادا إليها، كما لا زالت السياسة ميدانا للاستئثار والاستحواذ وتحقيق المصلحة والإفساد من قبل من يمسك بزمامها، بدلا من أن تكون ميدانا للإصلاح والتقدم نحو مستقبل يخدم مصالح الناس ويرعى حقوقهم ويحمي حرياتهم وفقا لمقتضيات الشرع الإسلامي..

إن كل هذه المعطيات وغيرها لا توحي إلى المحلل أن الأحزاب الإسلامية العراقية تعمل وفقا لإيديولوجية إسلامية متكاملة الأركان والبنى الفكرية، بل توحي أنها أما تواجه عجزا فكريا يمنعها من إيجاد هكذا ايديلوجية أو أنها تخالف إيديولوجيتها وتستغلها لخدمة أغراض خاصة لمصلحة ثلة سياسية معينة. والحال لا يختلف كثيرا بالنسبة للأحزاب التي تدعي العلمانية، فهي أيضا تعاني من قصور إيديولوجي واضح جعلها في كثير من الأحيان أسيرة لتوجهات قيادات سياسية نافذة تحتكر فضاء السلطة لمصلحتها، بل ويدفعها شغفها بالسلطة إلى التحالف أو المشاركة في حكومات تخالفها عقائديا بنسبة 360 درجة لمجرد أن تكون لها حصة في كعكة السلطة التي تعتقد أنها سوف تفقدها إذا جلست في موقع المعارضة في الحكومة والبرلمان.

إن ما جرى ويجري للأسف في العراق يجر الكاتب والقارئ والمهتم بشؤون الأحزاب والسلطة والحكم في هذا البلد إلى نتيجة مفادها أن الايديلوجية على اختلاف فضاءاتها الفكرية لم تكن إلا خدعة يجند لها البسطاء وأصحاب النوايا الحسنة والمحرومون والمتمردون على واقعهم البائس من قبل قيادات براغماتية لا تتورع عن استخدام أي حيلة وشعار لخلق جيش حزبي يخدم مصالحها الخاصة بحجة خدمة مصالح الوطن، وان هذه الإيديولوجيات حتى لو وجدت الأرض المناسبة لاستنباتها، والبشر المخلصين للدفاع عنها، فأنها في نهاية المطاف تسقط فريسة لطلاب السلطة على حساب طلاب المبدأ، فما يعانيه العراق من أزمات ومشاكل لا تنتهي رافقته منذ نشوء دولته الحديثة، وقفزه المستمر من أطروحة ايديلوجية إلى أطروحة ايديلوجية أخرى، مع العجز الواضح في وضعه على سكة صحيحة تمهد السبيل لبناء تجربة في الحكم والإدارة ناجحة، إنما ينبع من هذا الداء المستمر الذي لا تشفى منه السياسة العراقية، فالإيديولوجيات كانت ولا زالت وسيلة خداع تستثمر لمصلحة الصراع السلطوي المستحكم في عقلية السياسي العراقي، وهذا الصراع السلطوي هو الذي حرم العراقيين من الاستفادة من الفرصة التاريخية التي وهبتها الظروف لهم ليكونوا بناة تجربة جديدة في الحكم تقلب مسار السلطة وعلاقتها بالشعب لأول مرة منذ مئات السنين في منطقة الشرق الأوسط، فضاع من عمر العراقيين أكثر من عشر سنوات قضاها ساستهم في المشاجرات والمهاترات الفارغة ذات الأثر السلبي العميق على شعبهم وعلى بناء دولتهم.

لكن الوقت لم يفت على إعادة الحياة لهذه التجربة، واستثمار كل ظروف المنطقة والعالم في سبيل تحقيقها، بل واستثمار حاجة الناس الملحة لإعادة الاعتبار لبلدهم، وإعطائهم الأمل في أن يكون لدولتهم مكانها المرموق بين الأمم، لكن ذلك لا يكون إلا من خلال غلبة عقلية المصلحة العامة على عقلية المصلحة الخاصة، وقيادة طلاب المبادئ لمسيرة البناء في الدولة وفي وسط أحزابهم السياسية، وقد أصبحت الظروف مؤاتية لعمل ذلك بعد أن اتضحت النتائج المفزعة للصراع السلطوي على حياة العراقيين، ولاحت نتائجها المخيفة من جديد وهي تهدد مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة، فضلا عن تهديدها لسيادة ووحدة دولتهم.