في العام 1980 تغابى الاتحاد السوفييتي ودخل الى "جحر الذئب" افغانستان، الحرب الباردة على أشدها، ازمة الصواريخ الكوبية والنووية تستعر بصمت، فيما العالم يتفرج على حروبات متنقلة عبر الحدود في العراق وافريقيا واماكن اخرى من العالم. ما حدث ان واشنطن استطاعت ان تطيح بموسكو في كابول. خلقت "اسطورة الجهاد الاسلامي" بمال سعودي – خليجي، وتحولت مصانع الجيش المصري الى ورش لتقليد الاسلحة الروسية وشحنها الى افغانستان على انها اسلحة مستولى عليها من الجيش الاحمر، فلا تنكشف الخدعة، ولا يستطيع الروس الخروج من الكماشة بإشعال حرب مواجهة مفتوحة ومعلنة مع الاميركان. والنتيجة صناعة ارض ومنبت للتطرف الديني والارهاب السلفي، ما مهد الى تغوّل التكفير، وصولاً الى الآن. والمفتي الاول كان "عبد الله عزام".
اميركا خلال 8 اعوام من الصراع الافغاني – الروسي صرفت نحو مليار دولار، لكن بعد انتهاء الحرب، وانسحاب الجنود الحُمر، رفضت لجنة الدفاع الفرعية في الكونغرس، تمويل بناء مدارس ومستشفيات للافغان، وردّت: هل سيحقق ذلك من منفعة لاميركا؟، كان الهدف هو اضعاف السوفييت الى اقصى حد ممكن تمهيداً لانهيارهم. العالم كان كله مشدوداً بحبال الاستقطاب، كل الانظمة "الفاشية" تتمتع بدعم من موسكو وواشنطن، صراع القطبين، خلف وراءه نفايات سياسية "مقيتة" لا يمكن طمرها بسهولة. وحين تفككت اوروبا بعد الانهيار الشيوعي، ظل الشرق الاوسط، كحجر عملاق يصعب تفتيته. التركة ثقيلة لكن يجب تقسيمها.
خطة تغيير المشهد بدأت في العراق. الادارة الاميركية جهزت سيناريوهات على مقاس وطباع وعصبيات كل بلد. العراق منذ عام 539 ق.م يشهد احتلالات. والوصفة الناجعة تأتي باحتلال. ولبقية البلدان اشتغلت بمعونة البنك الخليجي مالاً وفتيا، على اعادة تنشيط الطباع التاريخية.
السعوديون منذ 70 عاماً يشعرون انهم بمأمن من اي تغيير في المنطقة والعالم، لجهة الاتفاق الشهير بين المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس روزفلت على متن الطراد الأميركي (كوينسي) في البحيرات المُرّة ضمن المياه الاقليمية المصرية. لكن الان لم تعد اميركا ترغب بالحفاظ على مملكة السعوديين. القصة التي بدأت لن تستمر. ثمة دواع كثيرة ومستقبلية. اميركا العظيمة تريد العودة الى ضفافها، فيما العالم سيتشكل من اقطاب كبرى الى جنب روسيا والصين. الروس استعادوا لحظة تأثيرهم في المياه الدافئة. الصين تتخلى عن مضايقة اميركا واوروبا وتتجه الى الشرق العربي طالما ان ضمانات صعود اقتصادها موجودة. لكن الدب والتنين غير مرحب بهما في الخليج. هما داعمان اسياسيان لإيران الشيعية، ولكل الدويلات الجديدة الناشئة.
ما يدور الآن في الشرط الاوسط، حرب تجفيف منابع، والقاعدة تقضي بأن ازاحة جسم ما يخلف فراغاً، وهذا الفراغ سيملأ بالغريم التقليدي. من الموجع اننا بتنا امام خيار طائفي، نمقته بذات القوة التي نمقت بها التكفير، لكن ما من قوة تستطيع ان تكون مكافئة لسقوط الامبراطورية "السُنية" في المنطقة مقابل "النهوض الشيعي". الاشكالية الاكبر، ان الشيعة حتى اللحظة لم يستوعبوا الدرس، مازالوا ينظرون للتغييرات بعين "روزخونية"، ما يحدث في سوريا مشابه لما حدث في افغانسان انذاك، فلمَ لم تخط اميركا والحلفاء التقليديين باتجاه تسليح المعارضة؟ ما من اتحاد سوفيتي وحرب باردة تخشاها واشنطن ان اسقطت من الجو او هربت عبر الحدود المفتوحة اسلحة تطيح بالميغ والسيخوي، فيشل النظام ويسقط؟ الصراع في سوريا مدعوم عربياً ودوليا بشكل واضح وجلي، لكن بعد عامين ونيّف، تفكك المقاتلون على الارض وباتت معارضة الخارج والداخل رهينة تجاذبات صبيانية. بات التمثيل العسكري الان على الارض السورية رمزيا (لواء التوحيد المدعوم قطريا) (لواء احرار الشام المدعوم تركيا) و(فصائل معدودة تمثل الجيش الحر، فضلا عن جبهة النصرة مدعومة سعوديا)، واستمراراً للعبة يأتي الدخول البريطاني الخجول باعلان لندن (الاثنين الماضي) عزمها تزويد المجلس العسكري الأعلى للائتلاف الوطني السوري باسلحة غير فتاكة! وهذا الائتلاف تهيمن عليه خطط الامير بندر بن سلطان.
اخطر ما يواجه الكفاح الاميركي الان، لتسريع وتيرة الصراع باتجاه اعادة الحواضن السلفية الى منطقتها الام في شبه الجزيرة العربية، حليفتها بريطانيا. البريطانيون لا يطيقون فكرة "النهوض الشيعي" في المنطقة. العداء الشيعي – البريطاني مستحكم، لذا لندن منذ اربعة عقود تحاول بجهد بالغ تخليق "سلفية شيعية" موازية لـ"السلفية السُنية"، فهي تقف وراء الافكار المثيرة للاشمئزاز والرفض التي تتبناها بعض التيارات الشيعية المتطرفة كالشيرازيين و"ياسر الحبيب"، وعراقياً هي تقف وراء مرجع ديني يحاول "تشييع" القوانين باتجاه جذب الشيعة العراقيين الى منطقة عداء مع المكونات العراقية الاخرى.
تكمن الخطورة الموازية ان العراق يحتفط بـ 16 مليون شاب تحت سن العشرين، ومليون ولادة جديدة سنويا، هولاء بالغالب من الشيعة. ووسط غياب خطط تنمية وتخلف التعليم وصعود الغلو الطائفي، فانهم سيتحولون الى "جهاديين" بانتظار عبد الله عزام "شيعي"، فالدويلات الشيعية المستقبلية ستخطو سريعاً نحو الاستقرار، فيما "الدولة الشيعية العراقية" ستكون اشبه بالحاضنة السعودية. هنا ستبدأ الحكاية. وهنا ايضا سيكون مقتلها.