عالم الفيزياء العراقي عبد الجبار عبد الله |
لاتخلو المجتمعات البشرية في أي فترة زمنية من وجود علماء خاضوا غمار العلم وتركوا إثارا وبصمات لعلها تكون بذرة ولكنها نمت وتفرعت حتى اصبحت منجزا بفضل وجود أمناء ومخلصين تجلت في أعناقهم المسؤولية الوطنية , وتختلف الشعوب في احتضان علمائها ومفكريها حسب طبيعة النظام السياسي ومقدار احترام شخصية الفرد وقوة القاعدة والنسيج الجماهيري ومدى فاعلية التركيبة السكانية وما تحمله من الوان متعددة لمختلف العلوم سيما المعرفة ومدى الارتقاء الفكري , وما انجزه العقل البشري من ابداع في الحضارة والفنون هو ارث وطني يحتم على الاجيال ان تنهل منه بفخر واعتزاز وتنشد التجربة لديمومة التطور العلمي والحضاري والفكري بنفس الكفاءة والأهلية التي وجب الانطلاق منها للانتقال الى مركز متقدم اسوة بالدول والتي لم تتوقف فيها عجلة التطور, وواحد من العلماء الذي ظهر في غفلة من وسط التراكمات والتجاذبات التي عصفت بالعراق سابقا ولم تجعله مستقرا على مدى فترة طويلة عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله الذي اقترن أسمه مع ابرز اربع طلاب في العالم ,تتلمذ على يد عالم الفيزياء البرت أنشتاين في جامعة الولايات المتحدة بعد أن سافر اليها عام 1944 وأنجز المهمة سنة 1946 ليعود الى وطنه يحمل معه العلم وليبدأ بتدريس أختصاصه في دار المعلمين العالية , وبعد ذلك تدرج حتى شغل مناصب عديدة منها رئيس هيئة الطاقة الذرية وبعد ثورة 14 تموز 1958 أصبح الدكتور رئيسا لجامعة بغداد , اثر منافسة بينه وبين الدكتور عبد العزيز الدوري فحسمها الزعيم عبد الكريم قاسم لصالح الاستاذ عبد الجبار عبد الله لتفوقه وأهليته العلمية , وظل رئيسا للجامعة ليمارس دورا رياديا وعلميا أبهر الجميع في بحوثه , الدكتور امتاز ببساطته وتواضعه ولم تشغله المظاهر والملابس الرسمية التي تجعله بعيدا عن الوسط الطلابي وقد فضل ان يقود سيارته اثناء توجهه الى دار المعلمين العاليا تعففا ان يضع سائق معه لينقله في سيارته نوع فورد صالون امريكية تحمل علامة (رئاسة جامعة بغداد رقم واحد ), وكان يرتدي في الصيف عادة قميص ابيض وبنطال عادي ويبتعد عن لبس البدلة واربطة العنق ,احب شعبه وبلده واخلص في عمله وظل رئيسا للجامعة حتى أستيلاء حزب البعث على مقاليد الحكم في 8 شباط 1963 , واقيل من منصبه وأعتقل وعومل معاملة وحشية وقاسية لاتتناسب مع ذلك العالم الذي ضحىٌ واجتهد وغمر نفسه للبحث عن العلوم ولم يذق قسطا من الرحة والاستجمام وكان همه الاول هو وضع اسس وبرامج وبحوث ساعدت في تطوير بداية الحركة العلمية وخاصة في اختصاصه الفيزياء ,ومن الجدير بالذكر ان الدكتور عبد الجبار عبد الله تألم لحادثه وحينما يتذكرها يبكي منها بأستمرار وقد لاحظ عليه ذلك زملائة الذين كانوا معه في المعتقل ينظرون اليه وهو حزين ومتألم واكثر من مره تذرف الدموع من عينيه خلاصة الحادثة حسب مايرويها الدكتور : (( في يوم 14 رمضان 1963 جاءت مجموعة من الحرس القومي لاعتقالي من بيتي , ميزت منهم طالبي الفاشل بسهولة, وطلبت منهم إمهالي عدة دقائق لكي آبدل ملابسي واذهب معهم وأنا أعرف انه ليس لدي ما أحاسب عليه , بدلت ملابسي وخرجت لهم , فجأة ضربني تلميذي ( راشدي ) قوي افقدني توازني وكدت أسقط على الارض , وقد استخدم عبارة ( أطلع دماغ سز ) ولم يكتفي تلميذي وانما مد يده بجيب سترتي واخذ مني قلم الحبر الذي اعتز به ولم يفارقني ابدا , هذا القلم الحبر هو من الياقوت الاحمر , هدية من العلامة المشهور البرت أنشتاين استخدمه لتوقيع شهادات الدكتوراه فقط , ومن أجل ذلك كلما اتذكر تلك الحادثه تدمع لها عيني ويأخذني حزنا طويل)) وبعدما افرج عنه اضطر ان يهاجر الى امريكا عام 1966 وكان موضع ترحيب وتقدير كبير من معظم الجامعات الامريكية وقد قلده الرئيس الامريكي هاري ترومان وسام (( مفتاح العلم )) لجهوده العلمية المميزة , وبأعتقادي ان هذه الحادثة أسرعت الى استفحال المرض بجسد الدكتور ليعانقه بعد فترة قصيرة من التعب والخوض بالعلوم الكونية حتى وافاه الاجل في التاسع من تموز سنة 1969 في الولايات المتحدة ونقل جثمانه الى العراق ووري الثرى في مقبرة الصابئة المندائيين في ابوغريب حسب طلبه , ولد العلامة عبد الجبار عبد الله في مدينة قلعة صالح من محافظ ميسان سنة 1911 في بيت معروف بزعامته الطائفه الصابئية المندائية أذ كان والده الشيخ عبد الله الزعيم الروحي الاعلى لطائفة الصابئة في العراق والعالم , والدته السيدة ( نوفه رومي الناشىء) اما زوجته فهي السيدة ( قسمه الشيخ عنيس الفياض ) ووالدها احد الصاغة العراقيين المشهورين, عاش الدكتور عبد الجبار طفولة قاسية في ظل حكم الظروف الصعبه التي مرت بالبلاد اثناء الاحتلال البريطاني للعراق رغم ان والده كان يتمتع بترحيب واحترام من قبل الطائفة المندائية , دخل المدرسة الابتدائية سنة 1918 وتخرج سنة 1925 ثم توجه الى بغداد ليكمل دراسته الاعدادية سنة 1930 في الثانوية المركزية التي حضيت باهتمام الملك فيصل الاول وبدأ واضحا ميله للدروس العلمية سيما الفيزياء والرياضيات , رشح الى بعثه دراسية الى الجامعة الامريكية في بيروت سنة 1930 لدراسة العلوم وخاصة علم الفيزياء فنال شهادة البكلوريوس سنة 1934 ليعود الى وطنه وعين مدرسا للغة الانكليزية في المتوسطة الشرقية ببغداد ولم يرق له التعين لبعده عن اختصاصه الذي برع فيه ثم عاد الى مدينته العمارة والعمل في ثانويتها مدرسا للرياضيات والفيزياء حتى سنة 1938 وانتقل الى وظيفة جديدة في الانواء الجوية بمطار البصرة والتي ابعدته عن نشاطه السياسي والثقافي ضمن ما اسس باسم الرابطة الثقافية في العراق , وبعد ذلك انتقل الى بغداد للتدريس في الثانوية المركزية استاذا لمادة الفيزياء للصف الخامس الثانوي , ليحصل على بعثه دراسية سنة 1944 على نفقة الحكومة العراقية لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الطبيعية ( الفيزياء ) من معهد مساتشوست للتنكلوجيا MIT ,وانجز المهمة عام 1946 ليعود للتدريس ضمن اختصاصه في دار المعلمين العاليا ببغداد وقد شغل عدة مناصب مهمة ومسؤولية جسيمة , , وذات يوم وهو متجه الى عمله في الصيف اصطحب معه مظله ( شمسية ) وعندما سأل عن السبب قال : اليوم ستمطر , وبعد اعتقاله عام 1963 وعومل معاملة قاسية اضطر الى الهجرة الى امريكيا عام 1966 لحين الوفاة , أما من الجانب الاخر فأن الدكتور عبد الجبار عبد الله موسعة وملم بعلوم الفلسفة والتاريخ ويحفظ الكثير من الشعر خصوصا الى ابي العلاء المعري والمتنبي وابي تمام وابي نواس وكان شاعره المفضل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ,وكانت له قابلية سريعة في الحفظ حتى حفظ الكثير من النصوص للكتاب المقدس للطائفة المندائية ( كتاب الكنز ربه) , وهكذا بعضا من الشعوب لاتكرم ولاتخلد امجادها وعلمائها الا بعد موتها.
|