ولاية ثالثة

 

كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية، ازداد سعار الصراع بين القوى السياسية للوصول الى منصب رئاسة الوزراء، وهو المنصب الأكثر اهمية وتأثيرا في العراق. ويتخذ هذا الصراع اشكالا شتى نشهدها على مدار الساعة، بدءا من عمليات التشهير بهدف التسقيط السياسي، وانتهاء بالتراشق بالمفخخات والعبوات الناسفة. ومابين هذا وذاك، تعقد تحالفات لتنفض ويعاد الاصطفاف فيها، وتعقد صفقات بيع وشراء وتتم امام انظارنا عملية استجداء مهينة لأصوات الناخبين. يجري كل ذلك والعين على دول الجوار وغير الجوار لأن اذرعها الممتدة هي التي ستقرر من سيتسلق المنصب، لكنها تظل بحاجة الى وقائع على الارض كي تحسم قرارها.

يبدو من ظاهر الأمور ان حلم الولاية الثالثة اخذ يبتعد، فالرجل يحاصره الجميع وفي مقدمتهم حلفاؤه من كتلة الاحرار والمجلس الاعلى، كما تحاصره مشكلات متفاقمة لم يعد قادرا على ايجاد حلول لها، حتى ولو كانت حلولا وقتية. وجاءت كارثة غرق المدن العراقية مؤخرا لتستغل ابشع استغلال من جميع القوى السياسية. فرأينا مشاهد هزلية بائسة لمحافطين وبرلمانيين يخوضون في الاوحال امام كاميرات التصوير، والبيوت تتهاوى على رؤوس سكانها، وفقراء الناس يطلبون النجدة بعد ان غرقت بيوتهم وممتلكاتهم. لكن، كلما استحكمت حلقات الحصار ازداد العناد والمكابرة والخطاب المتشنج والقاء المسؤولية على الاطراف الاخرى وتصاعد التشبث بالمنصب.  ومن حق الرجل ان نقول ان سعيه الى ولاية ثالثة ليس شخصيا تماما، رغم طموحه الفردي في ان يصبح حاكم العراق القوي الذي تتجدد له الولاية دورة اثر اخرى. لقد تكونت عبر ثماني سنوات من الحكم شبكة هائلة من مواقع النفوذ السياسي والمالي والعسكري المتداخلة، لا يمثل المالكي سوى الواجهة التي تتصدر المشهد، وهذه الشبكة هي التي تستميت معه في الدفاع عن مواقعها ومكاسبها وثرواتها. 

لكن المنافسين ايضا اعدوا شبكاتهم كي تحتل المواقع الشاغرة. سيكون من السذاجة ان يتصور المرء ان تبديل الوجوه سوف يفضي الى تغيير الحال. واضح من الاسماء المتداولة حتى الان انها لا تختلف كثيرا عن المالكي، لأنها من الخامة نفسها التي تتصف بانغلاق افقها السياسي وانعدام خبرتها في ادارة الدولة وتنافسها الصبياني مع الاطراف الاخرى، وهذا لن يحل ايا من مشكلات التركة التي سيخلفها المالكي وراءه. وفي اغلب الظن انها سوف تلعب الدور نفسه الذي يلعبه فريق المالكي من حيث الفشل الاداري والأمني والعجز عن ادارة الصراعات السياسية والمجتمعية والانخراط في منظومة الفساد.

تتبقى ميزة اساسية في وصول البديل، أيا كان، الى موقع رئاسة الوزراء، وهي انعاش مبدأ تداول السلطة الذي يكاد يلفظ انفاسه الاخيرة، وهذا المبدأ هو الوحيد القادر على كسر الحلقة المحيطة بمنصب رئيس الوزراء وبالتالي تفكيك شبكة المصالح التي نبتت فوقها وترعرعت. بطبيعة الحال، لا يمكن لعاقل ان يصدق أن أيا من مشكلات العراق المستعصية سوف تجد لها حلا في ظل نظام سياسي تمثل المحاصصة الطائفية عموده الفقري. لكننا، في أقل تقدير، سوف نتخلص من شبح يلوح واضحا في الافق،  وهو الشبح الذي نما وكبر من مرحلة القفز الى السلطة فالتمكن منها، فالاستحواذ على مفاصلها جميعا، وصولا الى التفرد بها.

أقول لكم بصدق، مع الولاية الثالثة لن تكون هناك ولايات قادمة على الاطلاق، وسندخل في نفق سبق ان خبرناه، ومن البلاهة بمكان ان نخوض التجربة مرة اخرى ونتوقع نتائج مغايرة.