رائعة العقاد عن أمه الكردية ... جودت هوشيار
اذا حاول أي باحث أعداد موسوعة تتضمن سبر الاعلام , من ذوي الاصول الكردية , الذين برزوا في شتى مجالات العلم والادب والثقافة و السياسة -  وكانت لهم أسهامات بارزة  فى الحضارة الأسلامية و فى النهضة الحديثة لشعوب الشرق الأوسط - لأستغرق ذلك سنوات طويلة من البحث والتقصي والجهد المتواصل الدؤوب ،  وربما أحتاج الامر الى أكثر من مجلد واحد , ففي مصر وحدها عدد من أبرز بناة الدولة المصرية فى تأريخ مصر الوسيط و الحديث ، من أصول كردية ، في مقدمتهم  مؤسس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبى و مؤسس الدولة العلوية محمد علي باشا الكبير ..
و يقول الكاتب و المفكر الشهير عباس محمود العقاد : “ حسب بلاد الأكراد شرفاُ أنها أخرجت للعالم الإسلامي بطلين خالدين: صلاح الدين الأيوبي ومحمد علي الكبير، وقد تلاقيا في النشأة الأولى، وفي النهضة بمصر، وفي نسب القلعة اليوسفية إليهما(قلعة القاهرة اليوم)، فهي بالبناء تنتسب إلى صلاح الدين، وبالتجديد والتدعيم تنسب إلى محمد علي الكبير...  ونحن نعرف بأن الناس أمناء على أنسابهم وأصولهم، وأن الكثير من القادة العسكريين الذين خدموا مع محمد علي باشا وأحفاده كان أغلبيتهم من الكرد، أمثال إسماعيل باشا الكاشف تيمور، جد الأسرة التيمورية بمصر.
. و تأريخ مصر الحديث حافل بأسماء عدد من رواد النهضة الفكرية فيها الذين  ينحدرون من أصول كردية قريبة و منهم على سبيل المثال و ليس الحصر: الأمام محمد عبده ورائد تحرير المرأة قاسم أمين  و الشاعر احمد شوقي و الأديب محمود تيمور, و الكاتب يحيى حقي و الفنان التشكيلى  سيف وائلي و عشرات غيرهم  ,  ولكن أياً منهم لم يكتب عن أصله الكردي بمثل الصراحة و الوضوح والصدق والاعتزاز ، كما فعل الكاتب والمفكر الشهير عباس محمود العقاد* (28 يونيو 1889 -  12 مارس 1964) , ففي مذكراته - أو على نحو أدق - في سيرته الذاتية ، التي صدرت في كتاب نشرفي القاهرة سنة 1969  تحت عنون ( أنـا )  كرس العقاد فصلاً شيقاًعن والدته الكردية ، طافحاً بأنبل المشاعر الأنسانية و أسمى الفضائل البشرية بأسلوبه المتفرد الذي هو نسيج وحده . لم يكتب العقاد نثرا عاديا بل قطعة أدبية رائعة أزعم انه لا نظير له في أدب المذكرات.
 لم أقرأ قط وصفا لوالدة أروع من وصف العقاد لوالدته الكردية على كثرة ما قرأت من مذكرات المشاهير المدونة  باللغات العربية و الأنجليزية و الروسية  أو المترجمة اليها . و ما قيل أو كتب عن ( الأم ) فى الأدب العالمى .  فقد استطاع العقاد ان يرسم صورة نابضة بالحياة لأم ( عظيمة ) تكاد تكون مثالية . أجل أنها كانت أمرأة عظيمة تتسم بقوة الشخصية و  تتمتع بأسمى الصفات الانسانية من طيبة واخلاص وتضحية ورهافة حس ورقة شعور وصبر وجلد على المحن والشدائد  و أيمان و تقوى أضفى عليها  وقاراً وهيبة , وهذه خصال وفضائل قلما تجتمع في أنسان واحد .
 وهذه الصورة القلمية الرائعة التى رسمها العقاد ، تعبر بصدق وقوة عن السجايا الاصيلة للمرأة الكردية في كل زمان ومكان .
و عندما أصفها بأنها كانت أماً ( عظيمة ) فأنا أعنى ما أقول تماماً . فالعظمة ليست حكراُ على المشاهير من الرجال و النساء ، بل أن العظمة الحقيقية هى فى سمو الخصال و الطبائع و المشاعر الأنسانية  التى تتجلى فى السلوك الأنسانى و العمل المثمر و ما يتركه الأنسان من أثر بعد رحيله عن هذه الدنيا الفانية .
***
يقول العقاد :
( لقد كانت أسرة (أمي) من ابويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر , وقد رأيت أحدهم لا تميزه عن أمم الشمال في لونه وقامته , وقد بقى بعض منهم الى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه الى اكلة (ملوحة) او ملوخية , لأنهم لم يتعودوا أكلها . أجداد أمي جميعاً قد تزوجوا فى السودان . وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت الى السودان بعد حادثة اسماعيل بن محمد علي  الكبير , وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه الى أسوان , وهو جد أمي لأبيها , وأبوها محمد اّغا الشريف الذي اختار (اطيان) للمعاش في  قرية من قرى الاقليم .
والذي يتذاكره كبراء السن الاسوانين عن عمر اّغا الشريف انه كان رجلا شديد التقوى , شديد القوة البدنية , يدرب أبناءه على الرياضة العسكرية كأنهم على الدوام في خدمة الميدان .
 ولد له محمد وعثمان ومصطفى وحورية وفاطمة. وخطبت حورية وفاطمة فاراد ان يحتفل بزواجهما معا , ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلي فأبطل الخطبة في اللحظة الاخيرة ، وقال للوسطاء الذين حاولوا ان يصلحوا الامر : أني لا أزوُج أبنتي لتارك صلاة ولا لمحدث نعمة ، كلاهما يجحد نعمة الله .
وشاعت حوداث ( العبد) قاطع الطريق في الصحراء ، . وخافه الجند وهابه تجار القوافل : فقال عمر لأصغر ابنائه مصطفى : أتسمع هذا وتترك العبد يعبث في الارض فساداً ؟ . فما انقضى أسبوع حتى عاد مصطفى بالعبد مكتوف اليدين .
 وقد مات مصطفى هذا على أثر ضربة من ضرباته اغراه بها فرط قوته ، فأنه تصدى لثور هائج فقمعه
 و ألقاه على الارض ، فلم تنقض أيام حتى لقى  نحبه ،  وقيل أنها حسد .. ولعلها كانت مزقة في داخل الجسم من ذلك الجهد العنيف ..
***
أما محمد أغا جدى لأمى فقد كانت فيه تقوى أبيه و صلابته و كثير من أنفته و أعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات ولا يقصرها على القول أو السلوك.
ذهب الى قرى الأقاليم ليختار أطيان المعاش ، فكان كلما سأل عن زراعة أرض فقالوا له انها عدس او فول .. قال : لا شأن لى بها ، حسبنا من العدس و الفول ما أستوفيناه فى السنجق ، أى الفرقة العسكرية ... حتى جاء الى أرض قيل أنها تزرع قمحاً أو شعيراً، فقال هذه أرضى : القمح لمحمد أغا و الشعير لحصانه !.. و أختارها مع ما بينها و بين الأطيان الأخرى من فرق فى الثمن يبلغ ثلاثة أضعاف ..!
***
ورثت أمى تقواها و سلامة بنيتها من أبيها وجدها ، ففتحت عينى أراها و هى تصلى و تؤدى الصلاة فى مواقيتها ، و لم يكن من عادة المرأة أن تصلى فى شبابها . انما كانت النساء لا يصلين الا عند الأربعين .
ومما ورثته عن أبويها حب الصمت و الأعتكاف.. كان الناس يحسبون هذا الصمت و الأعتكاف عن كبرياء فى جدى رحمه الله ، و كانوا يقولون أنها " نفخة أتراك " !
لكنها لم تكن " نفخة أتراك " كما توهموا ، بل كانت طبيعة تورث و خلقة بغير تكلف ، و لم أر فى حياتى أمرأة أصبر على الصمت و الأعتكاف من والدتى .
فربما مضت ساعة وهي تستمع من جاراتها و صديقاتها وتجيبهن بالتأمين أو بالتعقيب اليسير ، وربما مضت أيام وهي عاكفة على بيتها أو على حجرتها ، و لا تضيق صدراً بالعزلة و ان طالت ، و لا تنشط لزيارة الا من من باب المجاملة ورد التحية .
و من المصادفة أتفاق والدى و والدتى فى هذه الخصلة ، و لست أنسى فزع أديب زارني يوماً وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع ، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة . انها وراثة من أبوين ، يؤكدها الزمن الذي لا يحمد فيه معاشرة أحد . الا من رحم الله !
***
و قوة الأيمان فى والدتي هي التى بنت فيها العزيمة ليلة أحتضارى .. !
نعم أيها القارىء الكريم ولا تعجب ... فقد أحتضرت قبل نيف و ثلاثين سنة ، كما تخيّل عوادي فى تلك الليلة ، فأذا بالوالدة هى الأنسان الوحيد الذى يتحامل على نفسه الى جانب سريري ليقنعنى أنني بخير .. وتنطوى على ذلك ساعات وهي على عزيمتها ، حتى جاء الطبيب أخيراً وأنبأهم أنه عارض غير ذى بال ، فأذا المحتضر قد نجا ، و أذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها .
و كانت الوالدة لا تنكر من شئوني الا الورق .. نعم : ما هذا الورق ؟ الورق الذى لا ينتهي !
هذا الورق الذى لا ينتهي هو الذى يمرضنى ، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذى يصرفنى عن الزواج ، و هذا الورق الذى لا ينتهي هو سبب الشهرة ...
ووالدتي أيها القارىء من أعداء الشهرة تتطير بها و لا تغتبط بها لحظة الا تشاءمت لحظات .
هذه الشهرة هى التي " تشيل غارتك " أي تجعلهم يتحدثون عنك ، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس !
***
و قلت لها ذات يوم : لو وجدت لى زوجة مثلك تزوجت الساعة ..!
و لم أكن مجاملاً و لا مراوغاً . فانني لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها ، و كنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث و يبلى..
فانه يصلح عندئذ كرة محبوكة ! .. ويغنينا عن شراء الكرات التى لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها .
ولقد توفى والدي وهي في عنفوان شبابها ، وكان لي أخ صغير فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا و أبنائها الكبار .
ولقد ورثت منها كثيراً الا القصد فى النفقة ، وتدبير المال ، و حسبى بحمدالله ما ورثت عنها .
---------------------------------------
*كتب العقاد ذات مرة  يصف نفسه :
أديب مشهور ، وليس بليسانس ولا دكتور، وعضو فى مجلس الأعيان وليس فى حوزته نصف فدان ، ليس ببيك ولا باشا ، ولكنه يقول للبيك و الباشا : كلا وحاشا ، و صاحب أعوان و أنصار ، وما هو بزعيم حزب ولا بصاحب عصبية ! وفقير جد فقير ، و لكنه ليس بهين و لا حقير ... وصاحب قلم مسموع الصرير موهوب النفير ، ولكنه ليس بصاحب صحيفة ولا بمدير ولا برئيس تحرير! .. .