من المفاهيم المغلوطة التي ذاعت ببراءة وانتشرت بسذاجة ان الولايات المتحدة تتصرف وكأنها (شرطي العالم) على ان المقصود بهذا التعبير المجازي صيغة الذم، وفي الحقيقة انها لا تقبل هذا الجواز ولا تتحمل هذا المجاز، لان (الشرطي) في الاصل والممارسة يحمي القانون من الخرق ويطبق القانون لمنع عودة وقوع الخرق او تكراره، ولما كانت الولايات المتحدة هي التي تخرق القانون الدولي والاعراف الدولية معا فانها ليست مؤهلة لحمل لقب (شرطي العالم) التقليدي او المثالي، بل هي محصورة بمدلول التعبير الاميركي في العنوان اعلاه . وبمعنى عام: ان هناك اشخاص يصنعون من انفسهم سلطة قانونية وحسب مزاجهم، كل يحرم الحلال ويحل الحرام، ويحكم من غير محكم وينفذ من غير شهود وينتقم بغير جزيرة ويؤذي من دون ذنب، فهم يضربون مثلا على هذا النسق في كتبهم ليقولوا: ان هتلر كان قانونا قائما بنفسه، فيجعلون من التعبير صيغة شخصية الا انهم يتصرفون بموجب مضمونه كدولة وادارة وسلطة كونية وشتان بينهم .
رجل (كابوي) يحكم على من يؤذي (بقرته) بالموت، ثم ينفذ الحكم فيقال عنه باللغة الاميركية، He is a law Upon Himself وعندما تتصرف الولايات المتحدة بازاء دولة وشعب، حصارا وقتلا وحربا ومؤامرات، فان التعبير بوصفه جملة اسمية بالانكليزية يأخذ كامل مديات معناه من الواقع الفعلي الخرق للقانون الوضعي والسماوي ولكل الاخلاق والقيم والمثل في الفلسفة والمجتمع، اذ هما عماد الفكر الاميركي المعاصر، لذلك تصبح في وضع يتعين ان تواجه به شرطيا انسانيا يلقنها احترام القانون ويمنعها من خرقه او دسه تحت التراب. هنا تحصل المفارقة بين الولايات المتحدة بوصفها شرطيا مزيفا والولايات المتحدة بوصفها مذنبا حقيقيا فالامر ليس بأيدينا لنقرر بل الامر بيد الولايات المتحدة لكي نختار او تنتقي، هل هي شرطي مزيفا ام مذنب حقيقي؟
اما ان تصير الولايات المتحدة شرطيا حقيقا وبريئا من غير ذنب، فلا والف لا، لا اقول ذلك لكي انتزع ابتسامة من القارئ العدو للولايات المتحدة او القارئ الصديق لها بل هي جدلية قائمة في حياة اليوم في طول العالم وعرضه، في شمالي شؤونه وجنوبيها، وفي شرقي مصالحه وغربيها، الولايات المتحدة عقرب يحسبها الناس ذات غدة سمية في ملقطيها والغدة موجودة في اخر حلقات بطنها، فيختلط على الابرياء والسذج شكلها الامامي بصورتها الخلفية، وتتحول المسميات الى غير مدلولاتها وتنطلق الاسماء والالقاب والصفات على غير حقيقتها.
ان بلادي العراق، ضحية هذه العقرب، ثم العالم الثالث كله ضحية هذه العقرب... وفي يوم ما سيكتشف الانسان في العالم كله ان هذه العقرب عدو للجميع حتى هي عدوة لنفسها، والغريب في حياة العقرب الحيوان انه اذا حاصرته النيران انتحر بشوكته وسمه خلال ثوان، فل تنتحر الولايات المتحدة اذا حاصرتها حقوق عباد الله في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية واولها حقوق النفط التي بلغت ما يقرب من ترليون دولار خسارة في اقل ربع قرن من دون سبب موضوعي او ذريعة مقبولة الا الحقد والجشع والانتقام، امراض نفسية تعانيها الشخصية الاميركية فتحولت بها وبسببها الى قانون كيفي من دون نص مقروء وبغير ديباجة واضحة او اسباب موجبة، اننا هنا لا نتهجم بل نتألم، واظهار الالم قد يأخذ شكل الرقص احياناً، ولقد قالت العرب حقا في الشعر:
لا تحسبوا رقصي في الهوى طربا
فالطير يرقص مذبوحا من الالم
ان بلادي تئن فعلا تحت سطوة الظلم الاميركي ومأجوريها من عجم وصهيون ، الا ان انين المتألم قد يتحول الى صرخة تتضاعف معها قوة الذراع لكي تقتلع الباب من حائط الخرسانة المسلحة من غير وجع او اخفاق، فهل يعي الاميركان هذه الحقيقة السايكولوجية الاكيدة وهم اشهر من يعمل في حقل السايكولوجيا، اننا نئن ونتلوى ولكن لا اظن ان هذا المسار يطول لانه يخالف كينونة الانسان السوي وطبيعته مهما كان جنسه او لونه، والعراقي ومن ورائه العربي قد يئن وقد يتألم، ولكن هيهات يستسلم.. هيهات، حتى اذا قضى الله فيه كان مفعولا صار شهيدا، او عاد شامخا منتصرا على ضعفه اولا وعلى اعدائه ثانيا. وفي التاريخ قصص على منحى الافراد وعلى نهج الجمع سواء، ومن اراد فليقرأ، ومن شاء فليناقش، ومن لم يصدق فليسأل الاميركان انفسهم فعندهم الجواب الاخير عبر تجاربهم عن انفسهم وعن غيرهم وهم في صراحتهم لا يستحون، ومن هزائمهم لا يخجلون، اما ان تسألوا الانكليز في هذا الصدد فلا نصيحة لي بذلك، واما ان تحادثو اليهود والصهاينة فلا عذر لكم بذلك لان الحقيقة تختفي تحت الف غطاء وكل غطاء منسوج بالف كذبة (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه)... صدق الله العظيم.