أول كتاب قرأته بداية مشوار تديني كان إرشاد القلوب للديلمي، والذي أوصاني بقراءته الشهيد سيد طاهر الحيدري، إمام جامع المصلوب في منطقة الدهّانة ببغداد، حينما سألته عن أيّ كتاب أبدأ به حياتي. كنت جليس المسجد، أرتاده كل الأوقات عدا صلاة الصبح. لم يكلفني ذلك الرواح والإياب اكثر من 50 فلسا ثمن تذكرة الباص رقم 67 من شارع فلسطين الى ساحة النهضة.
كانت الحياة بالنسبة لي قد وصلت الى مراحلها النهائية، حيث لا يفصلني عن الجنة سوى هذا النفس الصاعد. أعيش المرحلة الپنپونية في الالتزام، والتي تسمى في علم التصنيف الحديث (مرحلة الاستزواج الذاتي)! ومن خواص تلك المرحلة، هو البحث عن أهدأ الطرق الى الفردوس، فالابتسامة الناعمة، وطراوة الكف، والوجه المشرق من كثر الاغتسالات المستحبة، والعطر المستخرج من بطون الحيتان، والسبحة، وما لا يحصى من المحابس.
جامع المصلوب في منطقة الدّهانة كان بالنسبة لي نهاية التاريخ، والمصلّين الشَيبة (الذين كانوا يبصقون في علب الدخان لسبب أجهله) من أحب الناس الى قلبي، رغم أنهم جميعاً لا يعرفون أي معلومة عني، كنت أصلي في الصف الأول خلف السيد الشهيد طاهر طلباً للثواب، وتقرباً من العلماء، وهذه المرحلة هي (مرحلة الأرنب نُط أو القط لولو)!.
كان الفتية الصغار يؤذّنون بين كل صلاتين، كل مرة أحد الشباب الصغار يؤدي الآذان، كنت أرغب أن أكون واحداً من المؤذنين، فالطاقة التي بداخلي تتصاعد، وأحلام الفردوس لا تفارقني، وصوتي كان جميلاً، حسب تقيمي الشخصي.
قررت أن أُقيم الآذان في المسجد ذات مرة، ووقتها كنت لابساً القمصلة النايلون، الحمراء، سيئة الصيت، خرجت من البيت وأنا كلي انفعال وحيوية، أردّد مع نفسي الآذان للمرة الألف، من ليلة أمس الى ضُحى اليوم، ركبت الباص، علا صوتي وانتبهتْ إحدى النساء لصوت الآذان، وحين نزلتْ، هي وعلاگتها الخوص، أسمعتني كلاماً لا أرغب بسرده الآن.
أُقيمتْ الصلاة في المسجد وقلبي يزداد خفقاناً، وأنا أترقب لحظة الانطلاق الى فضاء الروحانيات لأعلن الآذان بصوتي. انتهت صلاة الظهر، وبدأ دعاء ما بين الصلاتين، أردت أن أسحب قراري، لكني والجنة كهاتين، ولم يبق من سِفر حياتي إلّا هذا الآذان. انتهى الدعاء وصلوا على النبي المختار، وقرأوا الفاتحة على أرواح الأموات، ثم ساد صمت رهيب.
قمتُ، والكل جلوس، أسرعت، خِفت أن يسبقني أحدهم، كنت أتصور أنها مسابقة للأسرع. توكلت على الحيّ الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وشرعت بالتراتيل
إن اللّــــــــــــــــــــه وملائكته يصلون على النبي..
كاد قلبي أن يخرج من بين أضلعي من شدة التوتر والحرج، فلأول مرّة أعلن جهاراً أمام الملأ، واضعاً كفي على خدي الأيمن، والأخرى على صرتي، أميل برأسي مع الصوت، متقمصاً الدَور مائة بالمائة
الله أكبر، اللّــــــــــــــــــــــــــــه أكبر..
أشهد أن لا إلــــــــــــــــــــــــــه إلا الله.
كنت في الصف الأول كعادتي، ولا أدري بالضبط الى أيّ مقطع وصلت، إذ سمعت بعض الضجيج خلفي، لم ألتفت لهم، ربما لديهم خطبٌ شغلهم عن سماع الآذان المقدّس بصوتي الروحاني. زاد الضجيج وأنا.. أشهد أن عليـــــــــــــــــــــّــــــــــــــــــــــاً ولي الله.. زدتُ في المدّ مع ازدياد الضجيج.
لم تكن إلّا لحظات، حتى أحسست أن كفّ أحدهم تجرّ بنطالي الى الأسفل، وهو يردد بيت الدُعاء..
كافي أوگف، أگعد رحمة الله والديك.
مالت رقبتي إليه بعدما التفتُ وقلت له وأنا مكسور الخاطر: شتريد عمي؟ الله يخليك، مو دَنْ وذّن.
وحين رفعت رأسي للجمع المؤمن، رأيت رؤوساً أينعت وحان وقت قطافها، والى الآن لم يزل كفي على خدي الأيمن، كان كبير الشيبة متكئاً على دكة المسجد، وأومأ بكفه الشريف إليّ بهدوء العلماء، ورزانة أهل التقوى، أن اجلس، أردت أن أفهمه أنه لم يبق لي إلّا الحيّات الثلاثة والدعاء للمؤمنين، لكن إجماع القوم كان على تنزيلي، وأن يقوم صبيٌ آخر ليبدأ آذاناً جديداً، فحسب الظاهر أن أذاني لم يبرئ الذمة.
نزلتُ الى سجادتي كمن هوى من شاهق، وأنا أعيش أقسى مراحل التقزم الحضاري، والفشل المعنوي وأنا بذلك الزي الغبيّ، إذ امتزجت حُمرة القمصلة بحُمرة وجنتيّ، ولسان حالي يقول: فإن نـُهزم فهزّامون قُدماً .. وإن نهزِم فغير مهزّمينا.
فكرتُ أن أفتح سحّاب القمصلة، وأدخل رأسي في صدري وأغلق على نفسي عار الهزيمة، وفكرتُ فيما فكرتُ به، أن أهرب من المسجد وهم مشغولون في سجود الركعة الأخيرة، لكي أتجنب التعليقات والتوصيات، لكني كنت أحسب كل ذلك في عين الله.
السيد الشهيد التفت نحوي ليتأكد من الفاعل، فابتسمت له باكياً شاكياً قسوة القوم. انتهت صلاة العصر، مشيت وسط جمع المصلين وقد حشرتُ ذيلي بين رجليّ، قد قصرت قامتي، وعرق مني الجبين، والمصيبة أن اللون الأحمر مميز.
كنت أسمع تعليقات البعض
: هو أكو واحد يوذّن ولابس أحمر؟
: ترة يمكن هذا مو طبيعي.
: عمي هذا لاگف.
والأطفال يتهامسون ويؤشرون نحوي، ثم ينفجرون بضحكة (ذُق، إنك أنت العزيز الكريم).
أول صدمة حضارية في حياتي، كانت قاسية جداً، لدرجة أن حرارتي ارتفعت، وبشكل مخيف، خرج من فمي كلام لم أفهمه، وأصوات غير عقائدية، استرجعت كثيراً وأكثرت من قول: اشورطت روحي بهاللغوه، يعني عبد الباسط حضرتي ؟
رجعت الى صلاة المغرب في نفس اليوم، زارعاً الثقة بنفسي، مطمئناً بأن الله لا يضيع أجر الصابرين المبعورين.