سعدي يتدلل علينا

 

في أحد تحليلاته المعمقة لخبايا النفس البشرية يتحدث "الفرد أدلر" عن نوع من الأشخاص ينزعون إلى إزعاج الآخرين كطريقة لإثارة انتباههم، ويضرب على ذلك مثالا طريفا عن صبي في الثانية عشر مصاب بمرض التبول الليلي غير الإرادي بسبب مشاكساته المستمرة مع أمه، وخلال علاجه النفسي يكتشف "أدلر" مصدرا عميقا لهذا المرض من خلال ذكرى قديمة، ففي طفولة ذلك الصبي حدث يوما أنه اختبأ في خزانة الملابس فظنّت أمه أنه ضاع وظلت تبحث عنه في الشوارع وهي هلعة. ثم ينتهي عالم النفس الشهير إلى نتيجة هي أن البول يعني التالي : "لكي أكون في مركز الاهتمام، علي أن أكون مصدر إزعاج، والطريق إلى ضمان الأمان ينبغي أن يكون عبر الخداع. أنا موضع عناية، ولكن باستطاعتي تضليل الآخرين". بمعنى أنه لكي يكون الطفل في بؤرة الحدث، عليه دائما أن يزعج الآخرين ويضللهم، يبول على نفسه، يجرح يده، يكسر قدح الشاي وإلخ.

تذكرت هذا المثال الذي طالما رأيناه في بيوتنا وأنا أتابع الضجيج الذي بات ملازما لما يكتبه الشاعر سعدي يوسف وآخره قصيدة سيئة يرثي بها الطاغية شبه المجنون معمر القذافي مشبها إياه بعمر المختار، وقبل ذلك قصيدة أثارت ما أثارت من لغط عن محمد وعائشة، ناهيك عن مقالاته القصيرة المتتابعة عن الشأن العراقي، وفي بعضها يشتم شريحة أبناء محترمة منهم ويصفهم بأوصاف مقذعة من قبيل أن طقوسهم "بربرية" وأنهم "خونة" و"عملاء" وفي بعض المرات يرقى الأمر ليكون تحريضا صريحا على الكراهية والعنف.

الحال أن ذلك يبدو غريبا ومحزنا جدا إذا ما علمنا أن الشاعر المذكور عمود من أعمدة شعريتنا المعاصرة ومن معطفه خرج جيلٌ كامل، وكان، في عقود خلت، مثالا للشاعر التقدمي الذي يحفظ الشبان قصائده ويتداولونها سرا. كنا نفعل ذلك واضعين أعماله الكاملة بغلافها المميز تحت معاطفنا ونحن نترنم: نبيٌٌ يقاسمني شقتي، يسكن الغرفة المستطيلة، وكل صباح يقاسمني قهوتي والحليب، وسر الليالي الطويلة. كان الرجل أيقونة للتمرد والعمق والطليعية فما الذي دهاه يا ترى فبات يكتب كل ما هو مثير وصادم؟ ما الذي يجعل شاعرا مثله يتحول لشتّام كالحطيئة ومتغنيا بالطغاة الموتى وناقما على شعبه؟ ما هذا الانقلاب العجيب ولماذا يصرّ عليه سعدي فيحرج محبيه المستميتين في الدفاع عنه وتأويله؟

أسئلة محيرة لكنها مع ذلك لا تمنع طيبي السريرة من التماس مخرج سيكولوجي للمأزق، ومفاده أن الرجل بلغ الثمانين من العمر، ولعله يشعر في قرارة نفسه أن مسيرته انتهت تقريبا، أنه قد قال ما قال ولم يعد ثمة ما يضيف شيئا لمسيرته. ثم بدلا من أن يسترخي شاعرنا من عناء القوافي ويشرع في كتابة مذكراته ورؤاه الثقافية، استدار لجهة غير متوقعة فصار يعبث بنا مثل ذلك الطفل الذي نبهنا له "أدلر"، أو مثل أي طفل بريء يرتقي السلم ويتأرجح من درابزينه، لا لشيء سوى لإثارة انتباه ذويه. لعل طفلا مشاكسا انبعث في سعدي بعد أن استشعر أننا أهملناه بعد عام 2003 ولذا تراه يصيح و"يتدلل" علينا، يكسر الزجاجيات ويشمر الحجارة فتصيبنا شظاياها ونحن نتضاحك ونقول له - لا بأس .. لا بأس.. إهدأْ، فلا هو يهدأ ولا نحن نتوقف عن التوسل به، وإذ يعيل صبره يصرخ بنا - انتبهوا لي ولد الطراك، اكتبوا عني، رددوا اسمي تره أنعل ابهاتكم!

أي نعم، انني أكاد أن أكون على يقينٍ من هذا؛ صاحبنا غير جاد بالمرة في ما يقول، إنه يمزح مزاحا ثقيلا تحت وطأة هاجس البقاء في دائرة الضوء، هو لا يريد سوى إثارة انتباهنا بهذه الطريقة. هذا كلّ ما في الأمر؛ سعدي يتدلل علينا فتحملوه رجاءً.