عشائر العراق صمام أمانه |
إيماناً منا بأن الأدباء هم الأفضل في كتابة التأريخ وتوثيق أحداثه كون الأمور المُسطرة في الدوائر والمؤسسات الرسمية مغايرةٌ للواقع وغالباً ما تُجانف الصواب ، أما السياسيون فإنهم لا يتعاملون مع الحقائق وقد أثبت الواقع المرير في العراق صحة ما قيل (إكذب ثم إكذب حتى تُصدق كذبتك ...عسى أن تنطلي تلك الأكاذيب على المجتمع وما صخرةُ عبعوب التي أغرقت بغداد عنا ببعيد)، والمؤرخون غالباً ما يحابون الحُكام ويجاملونهم على حساب الأمانة التأريخية في النقل لغايات مادية وبغية التزلف إلى السلاطين ناهيك عن الميول والإتجاهات التي تجعل من صاحبها يُسطر شيء من وقائع التأريخ ممزوجاً بنسج خياله وعلى هواه لتُصبح بعض تلك الأحداث الإفتراضية التي تعصف بذهن من كتبها بعد قرون من الزمن حقائق من وجهة نظر البعض تُزهق بسببها الأرواح وتراق الدماء لتستعر الأرض من بعدها جحيماً لا يُبقي ولا يَذر وليس ما يعصف بأهلنا في العراق عن ذاك بمنأى عما ذكرت ، أما الأدباء فهم من يغوصون في أعماق الحقيقة ويسطرون بإسلوبهم الثري الرصين أسسٌا يمكن الإعتمادُ عليها لإرشفة التأريخ وتدوين أحداثه . ما دفعني للكتابة في شأن القبائل والعشائر العراقية العريقة الأصيلة هو الاستهداف الذي طال أعمدة القوم ورؤساء تلك القبائل ومشيخة هاتيك العشائر ، ومن ناحية أخرى حفاظاً على بعض المواقف التي نقف إجلالاً وإكباراً لإصحابها فآثرنا توثيقها بغية الحفاظ على هذا الإرث الرائع عسى أن تتناقلها الأجيال بعين الرضا ولا يصيبهم مثل الذي أصابنا وحل بنا لنكون سبباً في تعزيز عُرى النسيج الإجتماعي والحفاظ على الأمن والسلم الأهليين . تاقت نفسي التي تنظر إلى قابل الأيام كليلٍ مُدلَهم السواد لا يُبشر بإنفراجٍ قريب ما لم يتناخى الجميع ويُشمروا عن سواعدهم ويأخذوا دورهم في هذا المنعطف الخطير من تأريخ العراق ، تاقت نفسي إلى زيارة أهلنا وقرانا في جنوب الموصل وكالعادة المألوفة أجتمع أهل القرية ومن حولها من القرى المجاورة في مضيف عمي الشيخ فإذا بأحد الأشخاص يتحدث عما جرى له في محافظة ميسان (العمارة) وما كان فعل (إمارة بني لام) العربية الأصيلة فأصغيت السمع خاصة ً وأني لم أكن قد رأيت المتحدث من قبل فكنتُ حريصاً كل الحرص أن لا تفوتني شاردةٌ ولا واردة وها أنا ذا استحضرها من ذاكرتي لأنقلها إليكم سادتي الأكارم : يقول المتحدث : كان لنا شأن مع الغُزاة الأمريكان فما أن وطأة أقدامهم أرض العراق حتى نادى منادي الجهاد أن هلموا فإنه جهادُ الدفع عن الأرض والعرض والدين ليتم في نهاية العام 2005 وبداية العام 2006 اعتقال إخوتي وأبناء عمومتي الذين انتهى بهم الأمر في معتقل بوكا الذي أنشئ في محافظة البصرة لذا كان القرار أن ننطلق أنا وأحد إخوتي وإثنان من أبناء عمومتي بسيارتي من الموصل صوب البصرة عسى أن نُكحل النواظر برؤيتهم وننقل لهم ما يُهون عليهم وجد الغربة وألم الفراق ، وبعد مخاضٍ عسير من تجشمنا لوعثاء السفر وكآبة المنظر هاهي تباشير ميسان تلوح في الأفق ولكن ...؟؟؟ على حين غرة استوقفتنا أشبه ما تكون بسيطرة غير رسمية أعدت على عجل وقد سُد الطريق ببعض قطع الحجر (البلوك) توقفنا رغماً عنا والقلوب وجلة خاصة ونحن نرى وجوه من أجبرنا على الوقوف لا تُضمر لنا خيراً والجميع مدججٌ بسلاحه ليبادرنا أحدهم بطلب هويات الأحوال المدنية ويا لمصيبتنا حينما نطق من الموصل ...؟؟؟ وإلى أين ...??? أجبته بصفتي كبير إخوتي وسائق العجلة : إلى بوكا لغرض مواجهة المعتقلين ...فإذا به يقول : قد وصلتم إلى حتفكم ليترجل الجميع ...؟؟؟ ترجلنا فإذا بنا نتعرض لركلات بالأيدي والأقدام وأخامص البنادق ...!!! إستدار أحدهم إلي قائلاً : أيها السائق عُد من حيث أتيت وإذا فكرت بأن تجلب معك أحد من الموصل فلن تعود حياً ...؟؟؟ فتوسلته أن يُعتق البقية لكني أدركت أنني هالك معهم لا محالة إن بقيت لبضع دقائق فحمدت الله أنهم ظنوا أنني سائق تكسي دون أن يعلموا أن البقية إخوتي وأبناء عمومتي كونهم حينما طلبوا الهويات لم يأخذوا مستمسكاتي ....عُدت أدراجي نادباً حضنا العاثر والعبرات تتكسر في صدري والدمع ينسكب والكثير من التساؤلات تعصف بذهني ، رباه ماذا أجيب أمي إن سألت وهي لابد فاعلة ؟ ماذا أقول لزوجاتهم وعيالهم ؟ ماذا وماذا...؟؟؟ في خضم هذه الحال التي أسأل الله أن لا يراها غيري ، أبصرت رجل على قارعة الطريق فاستجمعت رباطة جأشي لأسأله : بالله عليك ياعماه مَن ينتصف للمظلوم ؟ ومن يجبر كسر الغريب ؟ ومن يُعيد الأمور إلى نصابها ؟ فقصصت عليه ما مررت به ، فما كان منه إلا أن أشار عليْ أن أتوجه على الفور صوب مضايف إمارة بني لام وشيوخها فما خاب من إستجار من بعد الله بهم وهم أهلٌ لنصرة المظلوم وأعلامٌ شأنهم شأن بقية العشائر العراقية في الكرم والنخوة والمروءة ففعلت بعد أن أرشدني الرجل الذي هداه الله إلي . ما أن وطأة أقدامي مضايف شيوخ بني لام حتى إختلطت المشاعر لأجهش باكياً بُكاءا ً يفوق نوح الأمهات الثكالى والنساء الأيامى والولدان اليتامى فإذا بأيادٍ حانية تربت على كتفي وعبارات الترحاب تصدح في أرجاء المضيف العامر المزهو برجالاته والهتاف يدوي : أبشر يا إبن الأجاويد هكيت ولكيت ليجلسني الشيخ قربه فقصصت عليه وعلى الحضور مأساتي فإذا به ينتفض كالليث الهصور منادياً بأعلى صوته إلي إلي فاكتظ المضيف بالرجال الرجال وهم ينصتوا إلى كبير القوم ويالهُ من مشهدٍ كأني في ميدان معركةٍ وساحة وغى تناخى لها فرسانها فلم أعد أسمع إلا أزيز العجلات وهي تنطلق محملة بصناديدها وكلٌ ممتشق سلاحه والشيخ يقسم علي أن أهنئ بطعامي الذي اُعد على عجل مطمئناً بفرجٍ قريب بإذن الله ، بدأ الوقتُ يمضي الساعة تعادل الدهر كله وقبيل أن يخيم الليل تعالت الأهازيج والهتافات فإذا برجال القبيلة قد عادوا ومعهم إخوتي ولكم أن تتخيلوا الموقف ما بين البكاء وضحكات الفرح والتهليل والتكبير والإعتزاز والتبجيل لهذه القبيلة الأصيلة ونخوة رجالها وقد طوقونا بدينٍ لن نفيهم حقهم ما حيينا وفي أهوال هذا الموقف لم يغب واجب الضيافة عن الشيخ الأصيل الذي نحر الكثير من الذبائح فأولم على شرفنا كل الرجال فأمر بعد أن غارت النجوم وهدأت العيون أن نهنئ بنومنا ونترك سيارتنا لننطلق مع تباريح الفجر إلى البصرة برفقة رجال العشيرة وسياراتهم وكان الأمر كما وجه الشيخ لنعود بعد رؤية إخواننا في معتقل بوكا ونحط الرحال في مضايف بني لام ثانية وقد أغدق الشيخ في كرم وفادتنا وأمر رجاله أن يرافقونا حتى نبلغ مأمننا وأوصانا الشيخ المُبجل بما نصه : أبلغوا أهلينا وإخواننا في الموصل وحيثما يصلُ صوتكم أبلغوهم منا السلام وقولوا لهم أننا إن استطعنا أن نفعل شيئاً اليوم ، نخشى أن يأتي يومٌ نكون فيه لا حول لنا ولا قوة فالسيلُ عارم والموجُ هادر والخطبُ جلل والجرح واحد والمصابُ واحد فامضوا على بركة الله راشدين والسلام . لعل هذا الموقف المُشرف لبني لام هو ديدن كل شيوخ القبائل العراقية على شتى مشاربها فالشيخ يُمثل الخيط الناظم الذي تنتظم به خرزات المسبحة بل والشاهد (الشاهول) الذي ينتظم به الجميع فإذا ما تم إستهدافه إنفرط العقد وتناثرت الخرزات وهذا ما يُخَطط له ويُنَفذ على أرض الواقع وقد شهدت الأيام المنصرمة الماضية مصرع الشيخ جمال الفارس شيخ عموم الرفيعات في الناصرية ومن قبله شيوخ قبيلة السعدون الحسينية العريقة ثم أعقبه اغتيال الشيخ عدنان الغانم شيخ عموم قبيلة آل غانم(سني) في البصرة والشيخ كاظم الجبوري(شيعي) ويُلاحظ أن الشيخين الأخيرين تم إختطافهما معاً على بعد 10 أمتار من سيطرة رسمية وعلى بُعد 100 متر عن قيادة شرطة البصرة ومنفذي العملية يرتدون الزي الرسمي ويستقلون العجلات الرسمية ليتم العثور بعد شهر على جثتيهما وقد تم نحرهما ولكن فات المنفذين أنه قد إختلط مصاب السنة والشيعة معاً وامتزجت دماؤهم وتوحدت آلامهم ، وإلى بغداد التي شهدت إغتيال الشيخ حميد مخلف الخليفاوي أما محافظة ديالى فقد تم إختطاف أحد شيوخ قبيلة تميم وأحد شيوخ قبيلة المهدية إذن هو استهداف للسنة والشيعة في محاولةٍ لخلط الأوراق وكذلك الشيخ علي الشلال ، وفيما يتعلق بنينوى ففي الأمس الذي لا يزال ماثلاً أمام أعيننا فقد بدأ الأمر بالشيخ غازي الحنش أمير قبيلة طي عنوان الجود والكرم أعقبه إغتيال الشيخ غانم السبعاوي شيخ عموم قبيلة السادة السبعاويين الحسينية ثم تلاه شيخ عام السادة العبادة أبو زوبع الكعود ومن بعده شيوخ قبيلة اللهيب حسن الزيدان ومن بعده رشيد الزيدان وشيخ الجبور محمد طاهر العبد ربه ثم شيخ عام قبيلة السادة البدران الشيخ برزان البدراني والانبارلها سجل يكاد يحتاج الى ارشيف خاص ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الدكتور نصر عبد الكريم الفهداوي والشيخ محمد ضاري الجميلي والشيخ نجم مصطفى العويسي والشيخ عيفان العيساوي والشيخ قتادة من هيت وختام الامثلة الشيخ خالد الجميلي الذي صدح بصوت المطالبة بالحقوق والقائمة تطول بحيث لم تسلم قبيلة ولا عشيرة من اغتيال لرموزها في مخطط وافد من خلف الحدود الإقليمية يهدف إلى ضرب السُنةِ بالشيعة ثم ضرب السُنة بالسُنة والشيعة بالشيعة ليكون من تبقى مطية ً لتحقيق مآربا حلم بها المتربصون بالعرب شر المنون ولا يزالون منذ مئات السنين وللأسف أن من ينفذ تلك الأجندات الدخيلة هم العرب ونقولها هنيئاً للأكراد الذين نأو بأنفسهم وجعلوا القومية الكردية هي القاسم المشترك الذي يُجمعون عليه أمرهم ومن باب الأمانة نقول أن اغتيال الشيوخ يمثل إستهدافاً للرجولة والمروءة والنخوة والكرم ومحاولة لإغتيال المواطنة والروح الوطنية ومحاولة لتدمير أواصر التلاحم الإجتماعي وتفتيت عراه وبث روح الفرقة والتناحر، ختاماً نسأل الله جل في عُلاه أن يُحول هذه المحن إلى منح ترأب الصدع وتلم الشعث وتوحد الكلمة ...إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه تحية إكبارٍ وإجلال لقبيلة بني لام العزيزة.... تحية العز والفخار إلى كل قبائل وعشائر العراق .... فالشمس شمسي والعراقُ عراقي ... ما غير الدُخلاء من أخلاقي ... اللهم إحفظ العراق وعشائر العراق وأهل العراق... |