الديمقراطية التي لا دولة لها

 

 

 

 

 

 

التقاليد الديمقراطية كونية , هي ايضا كحلقات السلسلة , حيث تربطنا بأقدم ازمان الماضي وباحلك مساحات المكان عتمة . لسنا لوحدنا , فالتاريخ والاماكن مع الديمقراطية التي يجب ان تكون لنا , اكثر من اي نظام آخر . الواجب الاول الذي يقع على عاتقنا هو , عرقلة الخسارة في مرحلة المعرفة , والاختيار الصحيح للوسيلة السياسية والعودة ثانية الى الاخلاق الاجتماعية . كل ما ذكرناه يتعلق ب " المعرفة " , تعد الوسيلة السياسية للموضوع الذي يستدعي منا التركيز عليه بالاكثر . ونسميها باختصار " الديمقراطية التي لا دولة لها " . اي اننا لا نقع في الحطأ او الغفلة التي وقع فيها الداهية "لينين " , بأصابته بمرض ديمقراطية الدولة , بل وحتى الديكتاتورية . لا يشير هذا السلوك الى غياب السلطة او غياب النظام بشكل فوضوي , انه سلطة الشعب المتنورة , ذات المعاني السامية وامصداقية الطوعية . وهو ديمقراطية الشعب غير المختنقة بالبيروقراطية , والمنتخبة بادارتها , والقادرة على عزلهم من مهامهم مثلما انتخبتهم .
لا يمكننا العبور على الموضوع دون استذكار ديمقراطية أثينا الشهيرة . فمن جهة هناك اسبارطة الملكية وأثينا الديمقراطية تتصارعان من اجل بسط النفوذ والتفوق في شبه الجزيرة الاغريقية , ومن الجهة الثانية ترغبان في صد استيلائات الامبراطوريتين الميدية والبرسية عبر روما في تلك الازمان . تغلبت مدينة أثينا الصغيرة على عدويها الشهيرين طيلة القرن الخامس قبل الميلاد , عبر سلاح الديمقراطية الذاتية . وقد افلحت في ذلك عن طريق المليشيات الطوعية والمسؤولين المختارين لتأدية الوظائف السنوية, دون اللجوء ابدا الى الدولة او الجيش النظامي الدائمي . لم تكن الديمقراطية المطبقة هي ديمقراطية الشعب , بل ديمقراطية الطبقة العبودية . مع ذلك , فقد طبعت أثينا أحد اسمى قرون التاريخ بطابعها , ليكون القرن الخامس قبل الميلاد قرن " أثينا " . لقد الحقت الشعوب اكبر ضربة بنظم الظلم جمعاء وبأفتك اعدائها , عبر ديمقراطياتها . هكذا صنعت اكثر أزمانها رفاهية عن طريق ديمقراطياتها .

لو لم تكن ديمقراطيات الامريكان , لما كانوا استطاعوا ايصال الامبراطورية الانكليزية التي لا تغيب الشمس عنها , الى النقطة المرسومة لها . ولو لم تكن ديمقراطية الانكليز الشعبية , لما كانوا قدروا على دك دعائم نسب الملك " نورمان " المجحف , ولا على تكوين وخلق النظام الانكليزي الديمقراطي , الذي يعد المثال القدوة حتى في حاضرنا . لو لم تكن " ديموس " الفرنسيين الكبرى , لما قامت الثورات الكبرى لديهم , ولا أسست نظمهم الجمهورية ذات الشهرة المعروفة والمثال المحتذى في العالم .

نستخلص من هنا أن الديمقراطية هي النظام الاكثر انتاجية وعطاء . فبقدر ما يكون النظام السياسي ديمقراطيا , بقدر ما يكون الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي مكملين لذات الحقيقة . معلوم علم اليقين انه لدى افتقاد الديمقراطيات جوهرها , وتحولها الى آلة لاصطياد الشعوب بيد الديماغوجيين , يبدأ حينها النظام بالانهيار , ليتبعهه الرفاه في ذلك . وبعدها يسود التزمت , الفاشية , الحروب والدمار . لو كانت علوم الاجتماع تقربت بصدق وأمانة اكبر , لوجدنا ان التاريخ والمجتمع يتكونان عبر السلوك الديمقراطي بنسبة ساحقة . في الحقيقة , يتوقف مسار التاريخ لدى اسئصال هذا السلوك , اويبدأ قسمه الذي أسميناه باللعين بالفاعلية والحركة .
لنلفت الانظار الى اهم نقطة اخرى تستدعي تسليط الضوء عليها فيما يتعلق بموضوعنا . وهي تتعلق بعدم وجود معنى بارز لديمقراطية " الطبقية " , واستحالة الرغبة فيها . فحسب مفهوم علم الاجتماع المهيمن , يعد ظهور " العبد " ومن ثم " القن " واخيرا " العامل " , البروليتاري محصلة لا مناص منها للتدفق الصحيح لسياق التاريخ , في تقدمه الذي لا يمكن اعاقته نحو الامام . وانه لا يمكن الوصول الى الاشتراكية والحرية والمساواة , دون المرور بهذه الظواهر . أذن , والحال هذه , فالقول : عاش العبيد ! عاش الاقنان والقرويون ! عاش العمال ! , يشير الى ثورية وديمقراطية الطبقة " ومن بعدها الديكتاتورية " . لقد ادرك تماما ان هذه الصياغة ليست سوى نظرية تخدم العبودية , من أولها الى آخرها . لا مكان للعبيد والاقنان والعمال في ديمقراطية الشعوب , تماما مثلما لا مكان فيها للعبودية والقنانة والعمالية . فديمقراطية الشعب الحقة لا تقبل بوجود العبد والقن والعامل للانظمة العبودية والاقطاعية والرأسمالية , بل ترفض ذلك . فتقديس الطبقات والمجموعات القديمة مرض قديم غابر . والديمقراطيات غير مصابة بهذا المرض . انها اسم على مسمى . فأينما تتواجد الديمقراطية , لا يكون هناك تعرض للسحق أو الاستعمار الباطل . كذلك تغيب هناك أدارة الناس كسرب القطيع . أذ لا توجد أدارة من قبل الغير في الديمقراطيات , بل ثمة أدارة " الذات " .
لا وجود لسيادة الهيمنة , بل يهيمن الفرد بذاته ويتحكم بها . قد تستعيد الانظمة السلطوية الغير , وقد تماسس القنانة والعمالية , لكن عندما تتطور الديمقراطيات , يتم الخروج من اطار العبودية والقنانة والعمالية . ويبدأ العمل , لكن بشرط ان يكون الفرد سيد عمله , وعضوا في مرتبة عمله .
ترتبط المشاعية والديمقراطية ببعضهما كألتحام الظفر باللحم . هكذا هو تعريف الديمقراطية الذي استهدفناه . وهذه هي مقوماته التاريخية . أما ديمقراطيات الطبقة , فتستلزم السلطة . وكل سلطة تستوجب بدورها الدولة , وكل دولة تستدعي أنكار الديمقراطية . أذن , فديمقراطيات الطبقة في فحواهاليست ديمقراطية , بل هي سلطة الدولة . والتجربة السوفيتية والصينية والكوبية تبرهن على صحة ذلك بما لا جدال فيه . كلما تزايدت الدولة , نقصت الديمقراطية . وبالعكس , كلما تزايدت الديمقراطية نقصت الدولة . يجب حفظ هذه القاعدة ونقشها في العقول كحكم ذهبي ثمين في مفهوم الديمقراطية الطبقية والدولة .
تابعوا التكملة في العدد القادم .....................