في مذكراته كشف الجنرال ديفيد بترايوس قائد قوات التحالف في العراق أن الحرب على الإرهاب تتطلب اتخاذ تدابير سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية تنموية، ولاسيّما توفير الخدمات ومعالجة مشكلة البطالة، ناهيكم عن العامل النفسي الذي أولاه اهتماماً ملحوظاً بهدف تحقيق السلم الأهلي وتجفيف منابع التنظيمات الارهابية المسلحة، لتوفير بيئة مناسبة للمصالحة. وبغض النظر عن وصفة بترايوس التي لم تلتزم بها قوات الاحتلال في العراق، والتي قادتها إلى الفشل الذريع، واضطرّت إلى الانسحاب، ولاسيما بتزايد أعداد القتلى والجرحى من الجيش الأمريكي والخسائر المادية والمعنوية، إضافة إلى اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت الولايات المتحدة بالصميم بانهيار مصارف عملاقة وشركات تأمين كبرى، وكذلك ضغط الرأي العام الأمريكي والغربي بشكل عام للانسحاب، فإن ستراتيجية مكافحة الارهاب سواء على المستوى الدولي أم على المستوى الإقليمي لم تؤدي إلى النتائج المرجوة منها، وقد ازدادت مخاطر الإرهاب، ولاسيّما بعد ما رافق التغييرات التي حصلت في العديد من البلدان العربية منذ مطلع العام 2011 وحتى الآن، ولاسيما بعد الانفلاتات الأمنية التي حصلت في دول التغيير العربية وظهور دور الجماعات المسلحة، والتنظيمات الإسلاموية المتطرفة، سواء إتخذت إسم جماعات أصولية أم غيرها. وقد ظهر الأمر جلياً في مصر عشية وإثر إزاحة حكم الأخوان الذين مارسوا سياسة الإقصاء والعزل بصورة ناعمة أو خشنة، وشهدت الساحة المصرية احتكاكات وأعمال عنف واغتيال وتمرّدات ولاسيّما في سيناء، وتصاعدت منذ حوادث 30 حزيران (يونيو) و 3 تموز (يوليو) 2013 وهي لا تزال مستمرة على الرغم من محاولات الجيش تطويقها وملاحقتها، وهو الذي تدخّل ونحّى الرئيس السابق محمد مرسي بعد نزول الملايين إلى الشوارع للمطالبة بإقالته، وتكليف عدلي منصور برئاسة الجمهورية، باعتباره رئيس المحكمة الدستورية ومن ثم تم تشكيل وزارة برئاسة حازم الببلاوي. لم تكن المسألة مقتصرة على مصر التي سنعود لمناقشة أوضاعها المؤثرة في العالم العربي، من خلال قانوني مكافحة الارهاب بالترابط مع قانون حرية الإعلام، بل اتخذ بُعداً خطيراً في تونس أيضاً التي لم تعرف العنف على هذه الدرجة المفتوحة سابقاً، حيث اغتيل شكري بلعيد وبعده محمد البراهيمي وآخرون وبدأت جماعات مسلّحة ومتطرفة باسم السلفية أحياناً أو بغيرها تهاجم الشرطة والجيش وتعتدي على المنشآت العامة.ويستمر الأمر في ليبيا حيث الانفلات الأمني وغياب هيبة الدولة وانحلال مؤسساتها، ولم تستطع التغييرات الجديدة من استعادة وحدة البلاد التي تعصف بها جماعات مسلحة وقوى مختلفة حتى أن رئيس الوزراء علي زيدان نفسه تعرّض للاحتجاز، وفي اليمن تشهد البلاد أعمالاً مسلحة واغتيالات فضلا عن تحليق الطيران الأمريكي بدون طيّار لملاحقة الإرهابيين من دون مراعاة لسيادة اليمن، وينفجر العنف في سوريا لدرجة مريعة ومفزعة، حتى غدا الأمل بوقفه عسيراً، ووصلت جميع المقترحات والحلول السياسية الدولية إلى طريق مسدود، ولا أحد يستطيع التكهن بمصير البلاد سواء انعقد جنيف 2 أو لم ينعقد. في مصر حيث يعوّل عليها الكثير من مستقبل المنطقة وتوجهاتها وذلك لقدرتها ودورها الثقافي والحضاري والعلمي والبشري، تتصارع القوى منذ الثورة وحتى بعد عزل مرسي، فثمة ما يقلق بشأن ما يجمع الحق في التظاهر بالارهاب، الذي يستخدم تحت مبررات وجود ” أعمال عنف متنامية” ومحاولة ” إجهاض جهود الدولة الرامية إلى تعزيز قيم الديمقراطية” وغير ذلك. ولا شك أن الموافقة على قانون تقنين التظاهر وفيما بعد قانون مكافحة الإرهاب، سيؤديان إلى تقييد حقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يثير مخاوف الجميع، ولاسيما وأن الدولة البوليسية التي تذرّعت بمثل تلك المزاعم ظلّت قائمة على نحو ستة عقود من الزمان، وأطيح بها في ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 وجرى الحديث عن العودة لحكم القانون وإشاعة الحريات، ولاسيّما حرية التعبير وتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، لكن ما حصل هو ظهور تحديات جديدة لفكرة حكم القانون، سواء برغبات سياسية أم آيديولوجية أو دينية وثمة مزاعم شتى، تارة باسم الثورية والأوضاع الاستثنائية وأخرى لتهميش بقايا النظام القديم أو ضد بقايا الأخوان وغير ذلك.ومثل هذه الخطابات تزيّت في الكثير من الأحيان بالرغبة في الحصول على مكاسب من النظام الجديد ولبس ثوب الثورية، لكن خطابها احتوى بشكل مباشر أو غير مباشر التجاوز على فكرة علوية القانون واستقراره لمصلحة سيادة الاستثناءات والعزل السياسي، وهي قضايا طبقتها الثورات جميعاً في وقت سابق، لكنها فشلت بقضّها وقضيضها، وكانت الضحية فيها هي النظام القانوني الذي هيمن عليه عنصر الاستثناء والمحاكم الخاصة وغير ذلك. ولم تسلم الثورات الحالية من اتهامات من هذا القبيل، ولاسيّما للمحاكمات السياسية التي شهدتها، سواء للرئيس حسني مبارك المخلوع أم للرئيس المنحّى محمد مرسي بالرغم من محاولته وحركة الأخوان من استخدام سلاح العزل السياسي والإقصاء التدريجي وارتكاب العديد من الأخطاء، لكن تسييس المحاكمات أمر مختلف، خصوصاً عندما يتم اللجوء إلى الإعلام في محاكمات موازية تثير علامات استفهام إزاء نتائج المحاكمات القانونية وبما يؤثر على القضاء، ولاسيما الضغوط التي تمارس عليه للحدّ من مهنيته واستقلاليته. إن الانتقادات الموجهة للنظام السابق في مصر والخاصة بإضعاف حكم القانون وتغليب المعالجات الأمنية واللجوء إلى القوانين الاستثنائية، هو الذي اسهم في اتساع ظواهر الارهاب والعنف واستخدام السلاح على نطاق كبير، وللأسف فإن مثل تلك المعالجات لا تزال مستمرة ولم تنقطع، الأمر يحتاج إلى تبنّي حزمة من السياسات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والإعلامية وبمشاركة المجتمع المدني لمعالجة تصاعد النشاط الارهابي وقد شهدت سنوات مبارك الأخيرة تمدّداً في النشاط الارهابي، وتحوّلت شبه جزيرة سيناء إلى بؤرة استيطانية للجماعات الارهابية المسلحة، التي تزداد اتساعاً وقوة في الوقت الحاضر. إن أهم انتقادات المنظمات الحقوقية التي وقعت على بيان مشترك احتوى على 20 توقيعاً هو تعريف العمل الإرهابي والجرائم الإرهابية، الذي تم التوسع فيه كثيراً، الأمر الذي قد يشمل بعض فاعليات المعارضات السياسة السلمية ومجموعة واسعة من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وقد يؤدي إلى محاصرة حرية الرأي والتعبير والإعلام، حيث نصّ القانون سبع مرّات على الإعدام في حين يسعى المجتمع الدولي لإلغاء هذه العقوبة أو الحد منها، وهو استمرار للقوانين التي أصدرها الرئيس حسني المبارك بشأن تغليظ العقوبة، بما فيها المساواة في التحريض عليها، والذي يمكن أن يشمل جهات كثيرة وبين الارتكاب للفعل الجرمي، كما أعطى القانون للشرطة وحدها مسؤولية مواجهة الارهاب، الأمر الذي قد يؤدي إلى تجاوز الضوابط القانونية والقواعد السائدة، من دون أن يضع اهتماماً بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كالفقر والأمية والبطالة وبيئة الجهل والتعصب، وهي الأسباب الجوهرية للارهاب!
|