الإرهاب وفلسفة الموت

 

شهدت مدينة کرکوك اليوم 4-12-2013 هجوماً إرهابياً جهنمياً وحشياً أعمي مزّق الأجساد ودمّر الممتلکات ، مستهدفاً مبني دائرة استخبارات المحافظة ، يعجز اللسان عن ايجاد كلمات تناسب شجبها بسبب الفلسفة البربرية التي تقف ورائها والتي لا تريد شيئاً سوي إلحاق الدمار بأهالي هذه المدينة وإفساد التعايش السلمي فيها. إنها فلسفة الموت ، التي تفضل الموت على الحياة. وهي فلسفة كاذبة عنصرية تستند الى المبدأ المتوحش الداعي الى قتل المواطنين الأبرياء لمجرد كونهم مواطنين أبرياء يريدون أن يعيشوا في سلام ووئام مع عوائلهم و ذويهم ، لأنهم ليسوا "مجاهدين في سبيل العدم" ولأنهم ليسوا جبناء مثلهم. انها فلسفة مجرمي الحرب وغايتها قتل اشخاص أبرياء.
ماهي الرسالة التي يريدون توجيهها من خلال هذه العملية اللاإنسانية؟ هؤلاء کما هو واضح للعيان يريدون النيل من المواطن والدولة والمدينة والمجتمع ، مدفوعين بعقلية الثأر والإنتقام من کل من لايشبههم أو لايفکر علي شاکلتهم ، هدفهم المراهنة على انفجار ضغائن المكونات المحلية على بعضها و محاولة يائسة لزعزعة أمن واستقرار المدينة وضرب الأخوة والتعايش السلمي.
نحن نعرف بأن لهذه‌ الأحداث دلالتها الرمزية وأبعادها الثقافية ، والذين يقفون وراء هذه‌ العملية الشرسة واللاإنسانية يتعاملون مع هويتهم الدينية أو القومية بأقصي الغلو والتطرف والإنغلاق ، کعُصاب نفسي هو مصدر للتوتر والتشنّج ، کمتراس عقائدي لشن الحرب علي الغير، أو کخطاب فکري للنبذ والاقصاء ، يستغلون البائسين والمهووسين في مشاريعهم الهمجية ، إنهم يخططون لفعلتهم المتحجرة والأحادية والعدوانية والاستبدادية هذه‌ في السرّ وتحت الأرض ، لکنها تمارس تحت سمعنا و بصرنا ، وکما تُعمّم نماذجها في الجوامع والمدارس أو عبر الشاشات والقنوات. يتصور أصحاب الارهاب وأتباعه انفسهم خلفاء الله وسادة الخلق وخير الأمم ، أو أنهم ملاك الحقيقة وحراس الإيمان ، سائرون علي النهج القويم وحدهم دون سواهم ، يدّعون بأن الشرائع القديمة تنطوي علي أجوبة وحلول للأسئلة ولمشکلات العصر، يمارسون الوصاية علي الناس وينطقون بإسمهم زورا و تشبيحاً ، يصادرون قرار الناس ويتحکّمون بأعناقهم و أرزاقهم ويشنون الحرب الإرهابية نيابة عنهم. إنهم لايعترفون بقرار الآخرين في اختيار نمط حياتهم ، بوصفهم مبتدعين ضالين أو کافرين مرتدين. فهُم يستخدمون العنف والإرهاب ، قتلاً وتصفية أو استشهاداً و انتحاراً ، مدفوعين بعقلية الثأر والأنتقام من کل من لايشبههم أو لايفکر مثلهم ، تحت دعوي سخيفة ومزيفة ، هي إنقاذ "الأمة الاسلامية" في العراق ، هدفهم تغييرالحياة في مدينة متأخية ککرکوك الي جحيم ، قتلاً وحرقاً وتدميراً بصورة عشوائية ، عبثية مجانية.
الأفكار الأصولية والسلفية بتصديرها مارکة الحجاب والدم والتضحية عملت وتعمل ليل نهار ضد صناعة التنمية والمدنية والحضارة، بقمعها الحريات الفردية وإرجاع أسباب المصائب والکوارث والجهل والفقر في مجتمعاتها إلي الغزو الثقافي الغربي أو إلي العولمة والأمرکة.
إن إستراتيجية الرفض والإقصاء وإرادة التأله والتفرد هي التي تثمر البربرية والهمجية الحديثة والمعاصرة، حيث يتم القتل وتمزيق الأجساد وتدمير الممتلكات بأعصاب باردة وضمير جامد و بعقلية أخروي أو عسكري إرهابي بصفة المناضل والمجاهد والمدافع عن الهوية والثوابت.
فبدل السعي والعمل بمفردات نسبية علي نظريات ثورة الاتصالات والمعلومات قام أصحاب الفکر السلفي الأصولي والقومي الشوفيني بتهافته في مواجهة کتاب نهاية التاريخ لفکوياما بتأليف مجلدات مبنية علي لغة الغلو والتهويم اللاهوتي والتشبيح النضالي والعقائدي لتحقيق إستراتيجيتهم التدميرية.
لقد حان الوقت ليعلن علماء المنابر أمام الملأ، أولئك الذين ينطقون بإسم مذاهبهم ويؤثرون في الجمهور الواسع من المتدينين، بأنه ليس کل ماجاء في کتبهم صحيحاً أو صالحاً للتربية الدينية ، فبدون إلغاء النصوص والأحکام والفتاوي ، التي تولد الاقصاء المتبادل وتبث العداوة والکره بين الشيعة والسنة من کليات الشريعة وبرامج التعليم الديني، وبدون إستبعاد النصوص والأحکام التي تتعامل مع اليزيديين والمسيحيين والصابئة المندائية واليهود، کمشرکين أو ضالين وبدون إطلاق حرية الإعتقاد بإلغاء قاعدة الارتداد لايمکن مواجهة الذات و لايمکن مکافحة ممارسة التشبيح أو الشعوذة و نشر الفتن ولايمکن صناعة مجتمع مدني تتعدد فيه الثقافات والإعتقادات ، التي تمحي التحجر الإجتماعي والسکون الثقافي. فالخروج من المأزق هو العمل علي التمرس بإستراتيجية فکرية جديدة من مفرداتها: الإعتراف المتبادل، لغة التسوية، عقلية الشراکة، البعد المتعدد، ثقافة التهجين والعقلانية المرکبة ومعالجة الإرهاب تحتاج الي إجراءات أمنية بقدر ماتحتاج الي تحولات في بنية الثقافة بثوابتها ونماذجها أو ببرامجها وتعليمها.
وختاماً: علينا ببناء هذه المدينة الكوردستانية المتآخية حتي وإذا أصر الآخرون علي هدمها.