الإضحاك السياسي.. الاحتجاج بالسخرية والنقد بالتهكم |
"إن من يبلغ ذروة القوة يضحك من مأسي الحياة"نيتشه
لطالما اقترنت غرائز عنف الحاكم بهواجس خوف المحكوم ، وتواشجت مظاهر شخصنة الوطن بظواهر زعرنة المواطن ، وتلازمت عوامل تفكك العلاقات بمعطيات تهتك السلوكيات ، وترابطت شعائر تدنيس الثقافات بطقوس تقديس الخرافات ، وتعالقت أنماط خذلان العقل بمشاهد طغيان الانفعالات . وهو الأمر الذي ضربت عليه أبلغ الأمثلة أنظمة السلطنات العربية بمختلف مسمياتها السياسية وتغاير عناوينها الإيديولوجية ، منذ أن شرعت تتسلط على مصائر الناس وتتحكم بخياراتهم ؛ باسم المصالح القومية تارة ، والوحدة الوطنية تارة ثانية ، وضرورات التنمية البشرية تارة ثالثة ، ومستلزمات النهضة الحضارية تارة رابعة .. الخ . للحدّ الذي أضحى معه التعبير عن الهموم الاجتماعية والمعاناة الاقتصادية للإنسان المنتهكة كرامته والمهدورة حياته ، يشكل في عرف السلطة خيانة وطنية عظمى ، تتطلب أن يتصدى لها النظام بكل ضراوة ويعاقب عليها القانون بكل قساوة ، ليس فقط لأنها تعد خروجا"عن مألوف المجتمع وإرباكا"لاستقراره وتهديدا"لأمنه فحسب ، بل لكونها مؤشرا"لانتهاك شرعية تلك السلطة وتجاوزا"على مشروعيتها أيضا". ولذلك فقد اعتبرت مظاهر القمع السياسي والتعصب القومي والتطرف الديني ، التي ما انفكت أنواعها تتناسل وأشكالها تتوالد ، في رحم الواقع العربي الموبوء بشتى ضروب المفاسد والانحرافات ، بمثابة مصادر طبيعية تمتح من معينها بنى الثقافة الشعبية والسيكولوجيا الاجتماعية ، المعول عليهما ليس فقط امتصاص الصدمات وتخفيف الضغوطات ، التي يتعرض لوطأتها كاهل الإنسان المغلوب على أمره فحسب ، بل والمناط إليها مهمة تأجيج مظاهر الاحتجاج وترويج أنماط الممانعة ضد كل ما يمت للأنظمة القائمة بصلة ، عبر تطعيمها بمذاق النكتة الساخرة وتسويقها بنكهة التهكم النقدي ، طالما إن التصدي الفعلي والمواجهة المباشرة لمؤسسات التنكيل السياسي والتكبيل الاجتماعي والتجهيل الديني والتضليل الإيديولوجي والتطبيل الإعلامي ، أضحت مجازفة ليس من الذكاء تجاهل مخاطرها كما ليس من الحكمة الاستهانة بعواقبها . وعليه فقد اعتبر أستاذ الأثنولوجيا في السوربون (دنيس كوش) إن (( الثقافات الشعبية ، بهذا المعنى ، هي ثقافات احتجاج )) . هذا في اعتبر منظر النقد الأدبي الروسي (ميخائيل باختين) (( إن الثقافة الشعبية هي القناة الأساسية التي تعبّر الجماعات والشعوب من خلالها عن نفسها ، وينتشر هذا التعبير منها بعد ذلك إلى كل المستويات )) . ولعل السائد في الاعتقاد التقليدي إن ظاهرة التفكه والتندر هي من علامات ما يشعر به المرء من حبور ومؤشرات على ما يحس به من انشراح ، عاكسا"بذلك طبيعة البيئة الصحية التي يعيش في كنفها ونمط العلاقات السلمية التي يتغذى على قيمها . وهو ما يبيح الاستنتاج – تبعا"لذلك - إن المجتمعات التي يتعاطى أفرادها الإضحاك وينغمسون في إنتاج الكوميديا ، عبر تداول النكتة وإشاعة الطرفة ، تمتلك من مقومات الرفاه الاجتماعي والكفاية الاقتصادية ، وبالتالي مسوغات السعادة الشخصية والطمأنينة الجماعية ، أكثر مما لدى أقرانها من المجتمعات الأخرى التي يغلب عليها طابع الجفاء في العلاقات والحذر في التوقعات ، بحيث إن مجرد تفكيرها بهذه الأمور وانشغالها بتلك القضايا ، يعدّ ترفا"لا مسوغ للانخراط في مسلكه ، وملهاتا"لا مبرر للارتماء في أحضانها . وهو ما سمح للفيلسوف الفرنسي (هنري برغسون) أن يعطي الانطباع عنه بالقول (( لا يمكن للمضحك أن يحدث هزته إلاّ إذا سقط على صفحة نفس هادئة تمام الهدوء ، منبسطة كل الانبساط ، فللامبالاة وسطه الطبيعي ، وألد أعدائه الانفعال )) . بيد إن حصيلة التجارب والممارسات تشير إلى أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتراكم المنغصات الاجتماعية وتعاظم المعاناة النفسية ، التي يكابد مرارتها ويتلظى بجحيمها الإنسان على مدار حياته ، فضلا"عن الشروط المجحفة والظروف اللاانسانية التي تحيط بوجوده وتؤطر علاقاته ، غالبا"ما تلجأه لابتكار ضروب شتى من التحايل على الواقع للتخفيف من وطأته والهزأ من المجتمع للتلطيف من غربته . ولهذا فقد سبق للفيلسوف الألماني (فردريك نيتشة) أن قال ذات مرة (( ربما أعلم أكثر من غيري السبب في إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك ، لأنه وحده الذي يتألم أشد الألم الذي أجبره على اختراع الضحك )) . ولأجل أن تكون الفكاهة ذات مغزى نقدي / ساخر ، بحيث تتخطى عتبة مدلولها العفوي / الترفيهي ، وتكتسب من ثم شيفرة التمويه التي تناسب الغرض السياسي المطلوب والغاية الاجتماعية المنشودة ، فان تحقيق هذا المطلب يستدعي تغيير نمط الآلية الذي تمارس من خلاله وظيفتها النقدية / التهكمية ، بحيث تتحول من طابعها الفردي المخصوص إلى نطاقها الاجتماعي العمومي ، وتنزاح من حيزها الانعزالي الضيق إلى رحابها الإنساني الشمولي . ذلك لأن (( الفكاهة – كما جاء بكتاب (الفكاهة والضحك) للباحث المصري الدكتور(شاكر عبد الحميد) – دائما"نشاط اجتماعي ، ويظهر ذلك مثلا"في نتاجات فكاهية كالنكتة ، فلا يستطيع شخص أن يرويها لنفسه ؛ بل لابد من آخر ، أو آخرين ، حتى يكتمل موقف التنكيت . بل انه حتى في تلك الأشكال من الانعزالية من الفكاهة ، أي غير الاجتماعية ، أي التي يستطيع الإنسان الاستمتاع بها بمفرده ، مثل الرسوم الهزلية والقصص الفكاهية ، غالبا"ما يكون هناك تصور بصري لشخص آخر ، أو جماعة أخرى من البشر)) . وهذا ما أكده (برغسون) ذاته في كتابه ( الضحك : بحث في دلالة المضحك) حين أوضح انه (( لكي نفهم الضحك يجب أن نردّه إلى بيئته الطبيعية ، وهي المجتمع ، ويجب خاصة أن نحدد وظيفته النافعة وهي وظيفة اجتماعية )) . وبصرف النظر عن كون إن النكتة اللاذعة هي منتج اجتماعي بامتياز ، إلاّ إن طابعها الساخر لا يستهدف في الغالب سوى الآخر الجواني من المجتمع المعني ؛ سواء أكان آخر السلطة / النظام ، أو آخر الحزب / الجماعة ، أو آخر القومية / العنصرية ، أو آخر الدين / الطائفية ، أو آخر القبيلة / العشيرة ، أو آخر الجهة / المنطقة . لذلك فهي تبقى مدينة في صيرورتها إلى تبلور موقف معارض أو نزوع رافض ، استخدم الحيلة وانتهج التمويه واستعان بالترميز ، لمناهضة وضع قائم أو مقاومة حالة سائدة ، ما انفكا يلقيان بظلالهما الداكنة على وجدان الإنسان ووعيه الجمعي ، لاسيما وان (( الكوميديا – كما أجاد الوصف الشاعر والكاتب المسرحي الإنكليزي (بن جونسون) – تهتم بالانحرافات التي تصدر عن الحماقة ، وتشغل نفسها بالأعمال التي تخرج عن السلوك الاجتماعي )) . بمعنى ثان إن معظم الصيغ السردية الساخرة ( نكتة ، طرفه ، نادرة ، تهكم ) ، لا يمكن أن تفبرك بلا معنى مقصود أو تنسج بلا مغزى مستهدف ، والا لاستحالة إلى نوع من أنواع التهريج الممل والمسخرة السمجة ، وهو الأمر الذي لفت الانتباه إليه رائد مدرسة التحليل النفسي (سيغموند فرويد) ، الذي كتب في دراسة له بعنوان (النكات وصلتها باللاوعي) يقول (( إن النكات التي يطلقها الناس في أساسها نوعا"من (التطهير) أو المتنفس للمكبوت من العواطف ، وليست النكات على هذا النحو مجرد تسلية أو إثارة )) . لذلك فهي ( =الصيغ) تتضمن – وان بصورة مضمرة - وجهة نظر معينة ، تتوخى من خلالها الجماعة ترويج الاستنكار من حيث تروم الترويح ، وتسعى عبرها لتسويق التنديد من حيث تريد التسلية . وعلى ذلك فان الشخص الذي لا يتفاعل مع محيطه ولا يتواصل مع أقرانه ، نادرا"ما يستسيغ النكتة وقلما يستذوق الطرفة ، ليس فقط من باب تبلد إحساسه وتجمد مشاعره حيال ما يجري فحسب ، وإنما من منطلق إيثاره التقية الفكرية واللامبالاة السياسية ، دون أن يخالجه الشك إزاء تبعات ما قد يتمخض عن حالة الهلامية (اللاموقف) ، التي يعتقد بأنها تجنبه بطش السلطة وتقيه غضب السلطان . ولذا فقد عدّ الباحث في شؤون النظرية الأدبية (عبد المطلب صالح) إن (( اللامبالاة تأييد صامت للقوي المسيطر )) . ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الإطار هو إن النكتة الساخرة ذات الطابع التحريضي ، لا يقتصر تأثيرها المضحك على حقل اجتماعي دون سواه ، كما لا يتحدد مضمونها التهكمي ضمن سياق دون آخر ، بل إنها تمتلك ما يسوغ لنا وصفه (بالسيولة) بين الأمكنة و(الترحال) عبر الأزمنة ، طالما إن الدافع على وجودها يبقى نفسه ، وان الباعث على تداولها يتكرر ذاته . فحيثما (( توجد حياة – كما ألمح بعبارة مكثفة فيلسوف الوجودية المؤمنة (سورين كيركجارد) – يوجد تناقض ، وحيث يوجد تناقض ، يكون المضحك موجودا")) . ولكي تمارس النكتة وظيفتها النقدية دون أن يفتضح أمرها ، وتجيد بمهارة لعب دور المحرّض دون أن تكشف أوراقها ، فان بنيتها مسوقة لاستبطان كل ما في الرموز من خصائص التمويه للمعنى والتورية للمغزى والتشفير للمعطى ، بحيث يكون من السهولة بمكان تحويل دلالاتها وانتقال ايحاءاتها ؛ من الملموس إلى المجرد وبالعكس ، ومن المقدس إلى المدنس وبالعكس ، ومن الواقع إلى الفكر وبالعكس ، ومن التاريخ إلى الأسطورة وبالعكس ، ومن الخاص إلى العام وبالعكس . وهنا يكون بوسعها أن تطال عوالم الممنوعات السياسية والمحرمات الدينية ، دون أن تضطر للإفصاح عما ترمي إليه من خلال أسلوبها الساخر وطريقتها التهكمية ، وذلك بفضل ما تشتمل عليه من آليات الإضمار وأساليب المواربة وطرائق التأويل . فنقد التزمت الديني وهجاء التعصب الطائفي ، على سبيل المثال لا الحصر ، قد يرد بصيغة استهجان لحالة سياسية مرفوضة أو ظاهرة اجتماعية مدانة ، خصوصا"حين يسود بينهما مبدأ التخادم المصيري والتفاهم المصلحي ، على خلفية تجرد المرجعيات الدينية عن قداستها وتخلي الرموز السياسية عن وطنيتها . كما يمكن لأشياء عادية لا تقع ضمن مدى الاهتمامات الإنسانية الملحة ، أن تكون بمثابة دال عرضي لا يثير الريبة ولا يستدعي المساءلة ، لمدلول خطير محاط بكل أنواع التحذيرات والممنوعات والمحرمات ، طالما انه يمثل إيحاءا"جماعيا"يستلزم نمطا"موحدا"من الاستجابة ، ويستدعي صيغة مشتركة من الإدراك المتامثل . إذ قد تكون مادة النكتة – وهذا ما يحدث في الغالب - مستقاة من موضوعات الحياة اليومية للناس ، ليس فقط لجعلها أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال فحسب ، وإنما لتسهيل عملية انتشارها وتسريع إجراءات تداولها ، وحشد الرفض والإدانة ، من ثم ، عن طريق تعميم الضحك الساخر وتشديد النقد المتهكم . ذلك لأن (( هناك قدرة مدمرة للنكتة – يوضح أحد المتخصصين في هذا الحقل (كرستوفر فراي) – من حيث أنها قادرة على أن تفشي وتفضح )) . وهو ما تخشاه الحكومات المستبدة وتحاربه الأنظمة الشمولية منذ أن دق إسفين الانفصال بين الرعايا والسلاطين والحكام والمحكومين .
|