ما أشبه الليلة بالبارحة

 

في مستشفى حكومي، وفي ردهة من ردهاته المخصصة للعامة , رقد بالصدفة ثلاثة من الساسة في العراق . فرقتهم السياسة والمصالح الفئوية وجمعهم المرض وأعراض الشيخوخة , كان كل مريض منهم يمثل تيارا :الأول ثار على الثاني متهما إياه وحزبه بالتجاوز على الحريات , وثار الثاني على الثالث منهما إياه وحزبه بالفساد والتجاوز . أما الثالث فقد أسقطوه (بالمعروف)، فقنع من الغنيمة بسلامة الإياب , وانشغل بجمع منافعه وأرباحه وحساب خسائره .
ولان المرض لا يفرق بين ثائر وثائر ,ولا يماري بين جالس على كرسي السلطة وجاثم على أديم الأرض , ولا يحابي يميني على حساب يساري ولا ينحاز لتقدمي دون رجعي , فقد بدا الثلاثة عزل , كلهم في حضرة المرض سواء . اذ يحل بينهم مقيما ويستضيفهم لمائدته الحزينة .
كان المرض قد اخذ منهم كل مأخذ . فالبدين البطين ذو الرغبات المحتدمة , غدا نحيفا بالغ الهزال غائر العيينين قليل التطلب . ومفتول العضلات , الشديد القسوة، باطش الكف بدا ضامرا , ضعيفا , مرتعش اليدين كليل العينين .وسليط اللسان , الوقح , ذو الحجة الدامغة في الباطل والحق, عاد واهن الصوت كليل النظر متعثر الكلمات لا يقوى على إيراد جملة مفيدة .
كان طعامهم بلا ملح وشرابهم بلا سكر ،ممنوع عليهم التعرض لريح المنغصات , تشاكس نومهم الكوابيس وأضغاث الأحلام .
تنهد احدهم شاكيا :
-هذا الدواء اشد وطأة من الداء , انه مر كالعلقم .
غمزه الثاني :
-اشرب يا أبا فلان , ليس هذا الشراب أمر مما جرعتنا إياه يداك .أتذكر؟؟
قال الثالث :
- يا جماعة ... السرير ضيق كقبر , قاسة حشيته كحجر .قال الأول:
- حنانك يا فلان , ما هذا الفراش بأخشن واقسى من أرضية الزنزانة العارية التي أودعتنا فيها .. تنهد الجميع قال قائلهم : دعوا الماضي فلو عدت القهقرى لما صعدت قطار السياسة قط.
قال الثاني : لو كتب لي العودة لما فعلت كذا وكذا......
فيما عض الثالث على شفته حسرة , وهو يتابع الزمن يتقافز من عيون الساعة المعلقة على الحائط , غير آبه للاماني التي تجيء بعد فوات الأوان .ولا بسورات الندامة التي تعتري البعض في الساعات المتأخرة من ليل العمر..