لست من دعاة تجزأة المجزء ولا من المنادين بشطر البلاد وقلوب العباد، لكنّ آخر العلاج الكي كما تقول العرب، وعلاج مناطق شرق القناة ربما يكمن في فصلها بمحافظة مستقلة إداريا عن بغداد، محافظة لها ما للمحافظات الأخرى من حقوق من قبيل تشكيل حكومة محلية وتخصيص مبالغ من ميزانية الدولة تناسب عدد سكان مدينة الصدر وحي أور والطالبية وجميلة والشعب والعبيدي والبلديات والأورفلي وباقي المناطق المغضوب عليها منذ الأزل.
نعم، أدعو لذلك وأنا في كامل قواي العقلية، ومبرراتي أبعد ما تكون عن مبررات المناطقيين والعنصريين الذين سبقوا أن صرحوا بالدعوة نفسها ذات يوم فلمناهم أشد الملامة. هم أرادو طردنا من بغداد، نحن سكنة شرق القناة، للتخلص من "قرفنا" و"تخلفنا" و"وساختنا" و"دشاديشنا"، بينما أنا أدعو لاستعاة كرامتنا المسفوحة وشعورنا بالآدمية الذي يكاد يتبخر بسبب مقدار الذل الذي نعيشه، وإلا كيف يمكن تفسير هذا الاستهتار المريع بمشاعر أكثر من أربعة ملايين مواطن يعيشون في مستنقعات بؤس لا مثيل لها، مستنقعاتٍ من الوحل والسيان والطرق المقطعة والخدمات المفقودة وإلى ما شئت من مظاهر لا تدل سوى على الاحتقار.
أمس مثلا حُبست في سيارتي لساعتين كاملتين كي أقطع مسافة لا تزيد على ألفي متر، واليوم جئت مع صديقين في تكسي لنجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة ثم يضطر السائق الشاب أن يعبر بسيارته "السايبة" تلا ترابيا وكأننا في جبهة حرب. لن أحدثكم عن الشوارع المليئة بـ"العكر" والحفر، ولن أصف لكم يوم الحشر الذي تراه في كل تقاطعٍ وساحة، لا أريد أن أتحدث عن كل هذا بل يكفي أن أذكّر السلطات بالمعلومات التالية؛ كي تدخل لمناطقنا، عليك اجتاز ستة مداخل أو سبعة فقط منها مدخل ساحة الحمزة وساحة مظفر و"حي أور"و"البنوك" و"الشعب"، وفي كل مدخل، ثمة جهاز "سونار" واحد يتناوب عليه خمسة جنود تقريبا، ولكم أن تتخيلوا أن هذه "السونارات" الستة تخدم قرابة أربعة ملايين مواطن، أي أن لكل 600 ألف مكموع جهاز واحد لا غير. دعكم من هذا وانتبهوا أن المستشفيات العامة الكبرى المخصصة لهذه الملايين من البشر لا تتعدى واحدا هو مستشفى "الجوادر" القديم المتهالك، ناهيك عن أن التخصصية منها غائبة كليا ما عدا مستشفى الولادة في "الداخل" و"الشماعية" في الأورفلي!
ماذا بعد يا ترى؟ هل أحدثكم عن "المجاري" أم عن مناطق العشوائيات؟ هل أصف لكم تدهور المدارس التي "تلعّب النفس" أم أنقل لكم مشاهد غزو "الدوارة" والشحاذين للدروب صباح كل يوم؟ هل أحدثكم عن قطعان الخرفان والماعز التي ترعى في المزابل أم تريدون وصفا تفصيليا للمزابل نفسها، وهذه الأخيرة باتت ملمحا من ملامح المدينة بحيث أنك تخجل إذا ما زارك زائر من مناطق الكرخ!
أعرف أن كثيرين سيقولون أن هذا حال البلد كله وأن العراق أصبح خربة مضحكة و"مفيش حد أحسن من حد"، ولهؤلاء أقول - كلا، فأنا شخصيا حين أعبر القناة وأتأمل حال المناطق الأخرى ينتابني شعورٌ بالمظلومية لا يمكنني إنكاره، أشعر أن جزءا كبيرا مما يفترض أن يخصص لي من ميزانية بغداد يُسرقُ في وضح النهار ليصرف على مناطق أخرى قد لا تحتاج سوى لعشر ما أنا بحاجة إليه، ما حاجة منطقة المنصور مثلا قياسا لما تحتاجه منطقة كـ"الشيشان" أو"حي التنك"؟
أي والله، إن ساكن مناطق شرق القناة يعيش خارج الزمن، بل لعله وهو ينتقل بالسيارة، من مدينة الصدر إلى الكرادة، يبدو مثل رجل قادم من مقديشو إلى لندن أو من دكا إلى نيويورك. مع هذا فإنه لا يطالب بتشييد فنادق راقية أو عمارات شاهقة، بل يريد فقط أن يشعر بآدميته في المسكن والمشرب وطرق التنقل والصحة، يريد تخصيصات توازي حاجاته فهو ثلث المدينة إن لم يكن أكثر، ومن حقه أن يتنعم بحياته مثل باقي العراقيين.
هو، بالإحرى، لا يريد "مكرمة" أو "مرحمة" من أحد، لسان حاله يقول - لا خلفت عليكم أيها السادة، لا أطلب سوى حقي، فاجعلوها محافظة قبل أن تجبروا عليها بعد حين، حفظكم الله ورعاكم!