أعتداد الشعوب بنفسها وبماضيها التليد الغابر يبدو أمرا فطرياً، فالإنسان بطبعه محبٌّ للشهرة وللانتساب للمجد، لا سيما بعد أفول نجم شهرته، ونزول الخط البياني لنهوضه، ليبدأ امتداحه للتاريخ، حيث بؤس الحاضر، ويدمن استرجاع مآثر السلف لانعدام رصيد الخلف.
السلفية فكر اجتماعي قبل أن يكون فكرا دينيا، إذ الدين فكرة، ثم عقيدة. وما نسمعه اليوم من غلاة هذه الطائفة الدينية أو تلك الملة عن المجد الذي مثله (أولياء ربيون أو خلفاء صالحون) ما هو إلا سيرورة فطرية للسابقين الذين ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر، وليس السير الى قبر الامام الحسين عليه السلام كالسير على نهج الامام الحسين، مع فوارق المقارنة، هناك من يحقن أولئك السلفيين يوميا بجرعات فكرة (الفرقة الناجية) والفرقة الأكثر نجاة بين المسلمين بشيء كاعتداد السلفيين بالسلف الصالح وادعاء تمثيلهم لهم على انهم سلفيون، ولو أمعنت النظر في مفردة (السلفية) لوجدت أنها مفردة ملطفة مرادفة لمعنى الرجعية.
الفرقة الناجية ومفهوم شعب الله المختار هما تبادل تجاري لمجرى الفكر الاجتماعي والفكر الديني، وتردي ايهما تردٍّ للآخر، فأية ملة دينية لا تهدف أول ما تهدف إلى تغيير [فكر] المجتمع! فيما يحاول أي مجتمع خلال الدعوة الدينية (دعوة النبي محمد ص ـ مثلا) إلى تكييفها مع معتقداته الاجتماعية، وسلوكياته اليومية، لتجد بعد سنوات تقاليد اجتماعية بلغت مستوى القداسة، أو مفاهيم دينية صار موروثا اجتماعيا، ويندر وجود دين لا يعترف بالعرف السائد، ولو على صعيد طرائق الدعوة للدين، (خذِ العفو وأمرْ بالعرف.. ) الآية. ولهذا يمكن أن يكون الشعب فرقة ناجية، أو يمكن أن تصبح الفرقة الدينية شعب الله المختار.
مثلَ شعوبٍ كثيرة على هذا الكوكب، يتفاخر العراقيون بأنهم اشرف من غيرهم من بقية الشعوب، أو أنهم أذكى من غيرهم، ولكن هذا الطرح يصطدم بصخور كثيرة، كصخرة عبعوب مثلا، وصخرة صدام، إذ ولاة الشعب ثمار شجرته، و(كيفما تكونوا يولَّ عليكم).
فالعراقيون هم أكثر الشعوب في المنطقة خوفا على السلامة الاجتماعية لنسائهم وأطفالهم. ومع أعتداد العراقيين بأخلاقهم الرفيعة، فإنهم في الوقت عينه يخافون على نسائهم ان يذهبن الى بيت أقاربهن دون رقيب او مرافق، وهو ما يشبه إلى حد بعيد ما يفعله السلفيون في مسألة سفر المرأة دون (المحرم) حيث تعمل وزارة الداخلية على إيصال رسالة الكترونية لهاتف الزوج تخبره بان زوجته خرجت من البيت وعليه التحقق ان كانت لوحدها.
لا نظن ان من يرفض خروج زوجته لوحدها انسان سيئ أبداً، ولا هو سيئ الظن بقرينه، لأننا في العراق لو سألنا عن سبب منع العراقيين لنسائهم وأطفالهم من الخروج بمفردهم لجاءنا الجواب ببساطة كبيرة: أنهم لا يأمنون على نسائهم وأطفالهم من المجتمع، السبب هو سوء الظن بالمجتمع.
فمن هو المجتمع الذي يتحدث عنه العراقيون؟ هل هناك مجتمعان عراقيان: مجتمع ظالم وآخر مظلوم، مجتمع لا يتورع عن الاعتداء على نساء وأطفال المجتمع الثاني؟ أم أن الأمر لا يعدو كون المجتمع العراقي مجتمعا من الأشرار، لا يحمي نساءه ولا بناته ولا أطفاله، أم أن كل عراقي مهما كان واثقا من نفسه وعائلته يظن بالآخرين شراً (الآخرون هم العراقيون المخاطبون بضمير الغائب).
بكلا الحالين يبدو ان المجتمع العراقي لا يريد ان يدع نساءه يخرجن دون حماية، بل لقد حدثني كثيرون عن شعورهم بثقل مسؤولية خروجهم مع زوجاتهم ونسائهم، وعن اختصارهم لكثير من الزيارات لأن المرأة خارج البيت عبء يستلزم إرجاعه لمكانه بأسرع وقت ممكن.
تبين لي من استبيانات شخصية كثيرة أن ما يخشاه العراقيون على النساء، يخشونه على الأطفال والفتيان أيضا، ظنا منهم ان المجتمع العراقي لا يؤمن لهم الحماية الكافية خاصة في حالة السفور، واعتقادا منهم بأن هؤلاء (نسوة وأطفالا) سيتعرضون للتحرش او للاغتصاب الجنسي لا سمح الله.
المجتمع العراقي إذاً تحت إرهاب خطر (مسكوت عنه) أشد فتكا من إرهاب القاعدة، وأسوأ عقابيل من داعش وأخواتها، خطر يتمثل بانعدام وسائل السلم الاجتماعي التي تحول دون الاعتداء على البسطاء والضعفاء والمسالمين من النساء والولدان في هذا المجتمع، وبالرغم من أن كثيرين تحفظوا على هذا الموضوع فإن آخرين صرحوا بما هو أخطر من ذلك، قال أحدهم: حتى الحيوانات لم تسلم من شر العراقيين! ذكرني ذلك بتقديم وجبات من لحم الحمير المسكينة، فيما ذكرتني شيطانة الشعر بأبيات قديمة تقول:
"إذا سقى اللهُ قوماً صوب غادية
فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
التاركين على طُهر نساءَهمُ
والناكحين بشطي دجلة البقرا
والسارقين إذا ما جن ليلهم
والطالبين إذا ما أصبحوا السورا"
إن إرهابا اجتماعيا خطرا يستحق الاهتمام لأن شعباً ينعم بالسلم الاجتماعي هو مجتمع أكثر قدرة على البناء والابداع.
|