سرّ ما خطر!! (14,13)..بقلم د. صادق السامرائي

 

 

 

 

 

 

 

 

-13-

هذا النهر الخفاق بالأفكار

والمحلق بعيدا في أعماق الزمان

يجعل المكان مطعّما بالأمنيات

ومعطرا بألوان العبق الساحر

المنتشر مع نفحات الرياح النابعة من قلبه الرقراق

 

نهر يسكب في أوعية الخيال

أبجديات الإنطلاق إلى عوالم أخرى

ذات أريج إبداع وبهجة وسرور

 

أجالس نهر السين وكأنني أعانق أمواج دجلة

عندما كانت تتدفق بعنفوان

من بوابة سدة سامراء

وأستعيد أيام كنا نسبح كالأسماك في النهر الجاري

ونتسابق ونغطس ونضحك ونركض

ونقفز من "الدِنَك"

وبعضنا يصيد السماك "البز" بواسطة الشص وبطريقة "التل"

لكثرة الأسماك وإزدحامها قرب بوابة السدة

 

أستعيد أنغام تلك الأمواج وأغنياتها

الخالدة بروحي والمنغمسة بأعماقي

وأشعر بأن الحياة قد عادت إلى الوراء

وأن الزمن يدور في دائرة أمسك ببدايتها

فالنهر يجري ويتبدل

ويتطابق مع صيرورات وجوده الكبرى

لكن المكان غير المكان

والماء غير الماء

والنهر عزيز مقدس

وعندنا كأنه مدنّس

 

وأبقى أحدق بوجه الأمواج

وهي تقهقه من فيض بهجتها وسعادتها

وأستعيد ملامح أمواجٍ في أنهارنا

وهي دامعة العينين

فتنشج بالبكاء

وتدين بالعويل!

 

- 14

أيها النهر الحالم بالموجودات الأروع

والمخلوقات الأبدع

تذكرني أطيارك المتهامسة

السابحة الغاطسة المحلقة المصدحة

بنوارس مياهنا وبطها وطيور "الهليجي" واللقلق والعقعق

والقطا وغيرها من الطيور

التي كانت تتوطن خليج دجلة عند كهف القاطول

وكنا صبية نطاردها فنؤذيها ونحسب ذلك براعة وشجاعة

وما هو إلا عدوان على الطبيعة وأعمدة بهائها وجمالها

وفي بضعة عقود من العدوان على الكهف والنهر والخليج

غابت المياه وتحول الخليج الجميل إلى مزبلة

وأرض جرداء خالية من معالم الجمال

يصهل فيها الرعب واليأس والخوف من الأيام

لقد ضاعت أيامنا ومياهنا وكهوفنا وطيورنا وأحلامنا

فالإنسان يعتدي على نفسه وحاضره ومستقبله

وتلك أزمة وجود أليم في أرضٍ لا يعرفها أهلها

وينكرها نهرها

لأن النهر إنسان

إذا إعتدت عليه الأجيال

يعلن الهجران!

 

الناس يحترمون أنهارهم ويقدسونها

وبعضهم يعبدها

وفي مجتمعاتنا أنهار حضاراتٍ أزلية

تحمل تأريخ البشرية

فنتجاهلها ونقاتلها

ونتباهى بنضوبها

وننسى دورها في إطلاق مفاتن الحياة

ونغض الطرف عن عطاءاتها

وقيمتها وأهميتها ودورها

في إطعامنا وإسعادنا

وتحقيق أحلامنا وأمنياتنا

ومباهج صيرورتنا الزاهية

المقتدرة المنيرة التي تمنح البهاء

لأجيال وأجيال تمر على أرضنا

إن النهر مرآة أهله

ومنطلق وجودهم وملامح ذاتهم

والنهر بأهله وحسب!