كانَ بيتُهم لا يبعدُ عنْ بيتنا كثيراً، لكنّي، و قدْ تعلّقتْ يديَ الصغيرةُ بيَدِ أمّي، كنتُ أسابقُ خطواتي كي نصلَ سريعاً!
كانتْ أسرةً وفدتْ من الريف، و استقرْت في أطراف المشرّح*.. أسرةً وادعةً بنتْ لها كوخينِ من القصب و البردي، و سياجاً من القصب أيضاً.
لمْ يكن ثمّة باب... كانت أمّي تقفُ عند المدخل و تنادي على أمّ عليّ، و في الحال تظهرُ تلكَ المرأة، و تقودُنا إلى أحد الكوخين.
مبتسمةً، كأنّ الابتسامة إحدى ملامحها، تُمطرُ أمّي بكلمات الترحيب. ليست ابتسامتها كتلكَ التي نُصادفها كلّ يوم.. كانت ابتسامةً خاصّةً بأهل الجنوب.. فيها طيبةُ العالمِ كلِّه، و فيها بساطتُهم التي أفتقدُها اليوم، و إذْ نجلسُ على البساطِ الملوّن، تنحني أمُّ عليٍّ لتقبّلني، فألوذُ بعباءةِ أمّي، في حين تستمرّ المرأةُ الطيّبةُ في الترحيب، كأنّها لم ترنا منذُ وقتٍ بعيد!
أحاولُ أنْ أفكَّ يدَي أمّي و أنسلّ من حضنها دون جدوى، فتبصرني المرأةُ العائدةُ و هي تحملُ صينيّة الشاي و تقول لأمّي دعيه يلعبْ، و أستغلّ أنا تلكَ اللحظةَ فأفكّ عن جسدي الصغير طوقَ يديها، و أقفزُ كالعصفور خارجاً من الكوخ المُبَقّعِ بنور الشمس!
في باحة البيت أجلسُ مثلَ قطّةٍ صغيرة أراقبُ زوجَ المرأةِ الذي يبتسمُ لي و يرحّبُ بي. كانَ محمّد الجادل، و هذا هو اسمُهُ، يجلسُ دوماً مادّاً رجليه في حفرةٍ، أمّا يداه فتقذفان بالمكوك من جهةٍ لأخرى!
و أمامهُ كانتْ خيوط الصوف الملوّنة تمتدّ باستقامة متعلّقةً بوتدٍ خشبيٍّ صغير.
كنتُ أنسى نفسي و أنا أتابعُ يدَه تقذفُ بالمكوك من جانبٍ لآخر، فيبزغُ من تحتِ يدَيهِ شيئاً فشيئاً ما يُشبهُ السجّادة التي كنّا نفرشها حينَ يأتينا ضيفٌ أو نفرشها ليلةَ العيد.
يُصابُ رأسي الصغير بدوارٍ لذيذٍ و أنا أشهدُ الأغصانَ تخرجُ من تحتِ يديه، والوردَ الملوّنَ يتفتّحُ وردةً بعدَ أخرى. وإذْ أُسمّر عينَيّ على ذلك المكوك الدائب الحركة، تُفاجئني نجمةٌ بزغت بين ذلكَ الورد، تعقبها أخرى، فثالثة!
في تلكَ اللحظة، مثل كلّ مرّةٍ، تأتي أمّ عليٍّ لتحملني إلى أمّي، فأعرفُ أنّ وقتَ العودة للبيتِ قدْ حان! تُحاولُ أنْ ترفعني فأُقاوم! تضحكُ و تقول لزوجها شيئاً، فيتوقّفُ المكوكُ فجأةً، و يُخرجُ الرجلُ الطيّبُ رجليه من الحفرةِ، و يقفُ مبتسماً، في حين تُجلسني أمّ عليّ على المخدّة التي كان زوجها يجلسُ عليها، و من دون أن أنتظر، أمدّ يدِيَ الصغيرةَ إلى ذلكَ المكوك لألمسهُ فلا أُفلِح، و تهتزّ الخيوطُ الملوّنةُ، فتُطوّقني بيديها خشيةَ أنْ أسقط، و تحملني عالياً إلى حيث تنتظرني أمّي، فأُلقي نظرةً أخيرةً خاطفةً على تلك الحفرة المظلمة حيث كان محمّد الجادل يُخفي ساقيه!
قريباً منْ بيتهم القصبيّ، في الأرضِ التي تجاور الجدول، أقفُ الآن وحدي، متطلّعاً مع الحشدِ المحيطِ بالدائرة إلى عليّ ابن محمّد الجادل يلعب بِكُراتٍ زُجاجيّةٍ صغيرةٍ مُلوّنةٍ** مع رفاقه. عليّ يكبرني ببضع سنوات، لكنّي لا أستطيعُ أنْ أشاركَ في اللعب، فما زلتُ صغيراً بحسب عُرفٍ غيرِ مكتوب!
و مثلما كُنتُ أراقب أباهُ من قبل، ها أنا أركّزُ بصري حابساً أنفاسي حينَ يٌسدّدُ عليٌّ كُرَتَهُ الزجاجيّة إلى مركز الدائرة، فيُبعثر الكُراتِ المصفوفةَ في كلّ اتّجاه!
أجهلُ كيفَ يٌودّعُ المرءُ طفولتَه، و كيفَ يُفارِقُ اللعبَ الذي كان يشغلُ يومه، فها أنذا أجدُ نفسي و قد اتّجهتُ إلى المسجدِ لأؤدّي الصلاة.. لم تعدْ تلكَ السنوات القليلة التي تفصلني عن عليٍّ تعني شيئاً. لقدْ كبرتُ و صرنا نقفُ الوقفةَ ذاتها و نتوجّهُ إلى الإله نفسه، و يضعُ كلّ واحد يدَهُ في يدِ الآخر بعد الانتهاء، مردّداً هو: تقبّلَ الله، و مُجيباً أنا : منّا و منكم إنْ شاء الله!
أمرّ على بيتهم القصبيّ الذي باتَ لهُ الآن بابٌ خشبيّ، و أطرقُ بحياء، فيخرج عليّ، و نمضي معاً إلى المسجدِ قبل أنْ تغربَ الشمسُ بقليل!
و أشاهدُ أحياناً ذلكَ الأب الطيّب و قد جلسَ على بساطٍ فُرِشَ بحذاء السياج، يستريحُ من العمل المضني في آخر النهار، فأجلسُ بجانبهِ ريثما يخرجُ عليٌّ من الدار.
كأنّي ذلكَ الصغير الذي يرفضُ أنْ يعودَ معَ أمّهِ وهو يُراقبُ وردَ السجّادةِ الملوّن و المكوك الذي لا يكفّ عن الحركة، حينَ أخبرني أبي أنّه سيُرسلني إلى بيتِ أخي ببغداد لأُكمِلَ الثانويّة هناك.
لو تعرف يا أبي بحزني فرُبّما كنتَ عدَلتَ عن إرسالي إلى بغداد.. الآنَ و قد صرتُ أباً، فإنّي أُدركُ هواجسَكَ و خوفَكَ عليّ.
قالوا لي يومها إن أباكَ قد جاء يتوكّأ على عصاه، فطمأنَهُ الشرطيّ، و أخبرَهُ أن لا حاجة لمقابلة أحد.. الأمرُ بسيط ياحاج.. سيخرجُ ابنكَ بعد قليل!
و إذْ كان الوالد المهموم يعودُ أدراجه، كان ضابط الأمن يقرأ أسماءنا واحداً واحداً، و يحدجنا بنظرات ذئبٍ بشريّ... في المرّة القادمة سأُرسلكم إلى مديريّة أمن العمارة، و لنْ تخرجوا!
لمْ يسألْهُ أحدٌ ما ذنبنا... كُنّا نمقتُ البعثيّين، و كنّا نصلّي... و كنّا نشعرُ بالفخر حين خرجنا إذ نرى الناسَ ينظرونَ إلينا من بعيد!
أتطلّعُ إلى أمّ عليّ تعودُ مع مجموعة من النسوة، فيقومُ لها الجميع.. لقد جاءتْ إلى بغداد لتزورَ أهلَ قريبٍ لنا كان تُوفيّ قبل ثلاثة أيّام.. تلمحني و تقول لي: ها يُمّه.. شلونَك!***
يا إلهي هي ذي الابتسامةُ نفسها التي كانتْ تستقبلنا بها أنا و أمّي يوم كنتُ صغيراً!
قال أحدُ الواقفين: زيارة مقبولة، و قالتْ هي: زرنا الكاظم****.. قالتها بفرحٍ عارِم، و أردفت: سلام الله عليه!
أتطلّعُ إليها بحزنٍ و إعجاب، و أسمعها تقولُ و البكاء يتصاعدُ في أعماقي: إستريحوا.. فيردّ أحد الواقفين: نوكف لأمّ الشهداء!
قالتْ و قدْ توقفت قبل أن تدلف إلى حيثُ تجلسُ النساء: ما قدّمتْ شي.. أوكفوا لزينب مو إلي!*****
كانَ الطاغيةُ البعثيّ ما يزالُ يجثمُ على الأنفاس، لكنّكِ كنتِ قدْ خرجتِ من شرنقة الخوف، و صهرتكِ التضحيةُ فلم تعودي تلكَ القرويّة البسيطة.. باتَ للحياة معنى جديد، و صارتْ لكِ صديقة جديدة، تجلسينَ إليها كلّ يوم.. صديقة رائعة كفكفتْ دموعَكِ حين كانوا يأخذون عليّاً و أخويه إلى الموت.. جلستْ إليكِ طويلاً، و أسَرّتْ إليكِ شيئاً، و حينَ خرجَتْ زينبُ****** من عندكِ، كانت الابتسامةُ نفسها قد ارتسمتْ ثانيةً فوقَ وجهَكِ الحزين!
يجلسُ محمّد الجادل أمامَ بيتِهِ فوقَ بساطٍ حالَ لونُهُ، مُيمّماً وجهَهُ شطرَ قريتِه التي جاءَ منها.. هو لا يُبصِرُ الشمسَ التي توشكُ أنْ تغربَ، و لا الأفق البعيد الذي حجبَهُ الغبار... لم يعد اليومَ يمدّ ساقيهِ في تلكَ الحفرة، و ما عاد هناكَ مكوكٌ يخرج منهُ وردٌ و نجومٌ مُلوّنة!
و في ظلام عينيهِ المُطبق يرى أبناءَهُ الثلاثةَ عليّ و قاسم و ياسين، فيفلتُ منهُ أنينٌ ذبيح!
لا أحدَ سيُلقي على وجههِ قمصانهم الملطّخة بالدماء!
لنْ يعودَ عليٌّ أيّها الحائكُ الطيّب!
لنْ يعودَ أحدٌ أيّها الشيخ الضرير!
سيجلسُ يعقوبُ العراق كلّ يوم، بانتظار يُوسُف.. يُوسُف الذي لنْ يعود!
............................
*المشرّح: مدينة صغيرة، تبعد ?? كم عن مدينة العمارة، كانتْ تغفو على نهرٍ بالاسمِ نفسه. قدّمتْ كثيراً من الشهداء في مسيرة الكفاح ضدّ حزب البعث المجرم. يُعاني أهلُها اليومَ الفاقةَ و الحرمان، بعد أنْ عانوا منَ القتلِ و التشريد! تقع حقول النفط على مقربةٍ منها!!!
**تُسمّى في جنوب العراق: لعبة الدُعبُل.
***كيفَ حالُكَ يا بُني؟
****الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام
*****لمْ أُقدّمْ شيئاً، قفوا لزينب لا لي!
****** زينب بنت الإمام عليّ (ع)، إشتُهرَ عنها قولُها و هي تجلسُ عند جسدِ أخيها الحسين (ع) بعد مقتله: اللهُمّ تقبّلْ منّا هذا القُربان
|