جمهورية الفحص المؤقت!

 

نعرف أن الحكم في العراق يشكل استثناءات غير متعارف عليها في الأدارة و مفاهيمها، ونعرف أيضا ان الأمور تسير نحو المزيد من التدهور، لأن كبار مؤسسات الحكم تدار بالوكالة الميسرة و المفروضة، من رئاسة الجمهورية الى مدراء مراكز الشرطة و البلديات.
و نعرف ايضا أن ثلث  القيادات الأولى لا تمتلك سجلا وظيفيا في الدولة العراقية لاعتبارت كثيرة، لذلك تجتهد في المكان الخاطيء و تحول سياقات العمل الى علاقات عامة، فيختلط الحابل بالنابل و تغيب الكفائات لصالح المتملقين، لتدار شؤون البلاد و العباد عبر الهاتف النقال و الفيسبوك و غيرهما من وسائل الاتصال الحديثة، لأن المسؤول " بجلالة قدره" يخشى الخروج الى الشارع و متابعة هموم المواطنين عن قرب.
ونعرف أيضا أن الموظف بالدولة العراقية بات مسلوب الارادة بساعات عمل قليلة جدا و مشقة ذهاب واياب لا يتحملها بني البشر ، حيث يمضي 7 ساعات يوميا في رحلة محفوفة بالمخاطر و مضايقات السيطرات الأمنية و عبوات التفجير المزورعة في كل مكان، لكن ما يعجز المرء عن تحليله هو اللجوء الى الوكالة في الدوائر الحساسة، وكأن هناك قرارا بتغييب هيبة الدولة العراقية، أو على الأقل ابقاء الحلول مؤجلة ضمن روتين قاتل، فيه من المناكفات السياسية ما هو كثير جدا، وفيه من بيروقراطية في غير محلها ما هو أكثر من ذلك، ما يعني أن العراق مقبل على ليالي كالحة اذا لم يستعجل العراقيون التغيير في البرلمانيات المقبلة.
وضمن مفاهيم غير منسجمة مع الواقع و مع قدرة المسؤول على التفريق ما بين المستعجل  و المؤجل، فان الأمور مرشحة للتفاقم،  فكل ينهب بطريقته الخاصة ، و الاشد ايلاما عدم الخجل من الاتهام بالسرقة و الصفقات المشبوهة و الوهمية في مختلف جوانب الحياة،  وكأن فكرة بيع العراق بالتقسيط يتم تنفيذها بتوقيتات دقيقة جدا على أيدي شركاء متنافسين على المال العام فقط.
 عراق تحترم فيه مقامات الغرباء و تنتهك فيه حرمات العلماء و الأدباء و عامة الناس بعقلية احتلال لئيم يتم تقليد طقوسه بحرفية مطلقة، جماعات مسلحة مليشيات متعددة الأوجه و التجهيزات و العائدية، سياسيون يحملون بعضهم البعض الفشل في كل قرار ثانوي، بينما يبلعون الألسن في الأمور المهمة مثل الموازنة العامة و تمويل الأحزاب و السلطات القضائية، ليبقى الحبل على الجرار في الانتهاكات و المساومات ، ابرياء يتحولون الى ارهابيين ب" جرة قلم" و العكس صحيح .
و المشكلة أن المسؤولين لا يستحوون من اعلان ذلك على الملأ، ومن هنا أيضا يأتي التبرير الأخر للوكالة، حيث يتم اختيار "المطيعين جدا" لتنفيذ الأخطر من المهام بلمح البصر، مقابل خصومات شهرية على الغرامات و العقود و المساومات،  حيث تحولت الرشوة الى وجاهة بعد أن كانت جريمة مخلة بالشرف، مثلما تغيرت الديمقراطية الوليدة الى ديكتاتوريات صغيرة، الوزير المدعوم لا ينفذ و الموظف البسيط يعاقب بقسوة، زمن تداخلت فيه كل المعايير باستثناء العدالة.
و نحن هنا لا نتهم جهة دون غيرها فالجميع يبحرون بنفس القارب ، تمسك بالسلطة يفوق الحدود و غض مؤلم لهيبة الدولة العراقية، التي ما عادت حصانة المسؤول فيها مصانة ولا مهابة، ربما بسبب ما ينشر من ارقام فلكية للنهب المنظم في عواصم الدنيا، التي لم تعد تعرف كيفية التعامل مع أشخاص كانوا قبل 10 سنوات في واد و اليوم يتحكمون بملايين الدولارات و يصيحون هل من مزيد، بينما المسؤول عن ادارة شؤونهم في الدوائر الحكومية هنا وهناك ما زال قاب قوسين أو أدنى من امكانياته الشخصية لان نهب خيرات بلاده جريمة لا مكافأة مثلما هو الحال في العراق.
 لا تمنع الحصانة الدبلوماسية فيها من ايقاف وزير أو برلماني في طابور الأنتظار على شبابيك تاشيرات الدخول في المطارات، رغم أنهم يتواجدون في عواصم الدنيا أكثر من بغداد التي يحلبوا خيراتها صباح مساء و يتلذذوا في اتساع رقعة حزنها، يعلنون طاعة لله و مخافة منه لكنهم في المقابل يحرقون الأخضر باليابس للفوز بملذات الدنيا، و المشكلة أنهم لا يشبعون من امتلاك أرصدة تعذيها صفقات فساد و ينتظرون استقبالا حافلا في العواصم التي يودعون فيها أموال العراق في حسابات شخصية، والحديث هنا عن ملايين الدولارات للشخص الواحد، فمتى يقول العراقي كلمته و يضع نهاية عاجلة لمفاهيم يسوقون البلاد فيها الى المقصلة،  يمارسون المظلومية بابشع صورها و يحتالون على مشاعر المحرومين، و يتوجهون القبلة طلبا للمغفرة!!غريب استمرار عصر الوقاحة في زمن الانفتاح الاخلاقي!!
يسكتون عن غياب رئيس الجمهورية لمدة عام و لايغارون على اموال البلاد  و تكامل مؤسساته الدستورية، لكنهم شديدي الصرامة على الموظف البسيط، يدافعون عن حقوق الانسان و ينتهكونها بطيب خاطر، لذلك يفقدون السيطرة على المؤسسات التي ينهشون بقايا عظامها، و يتجاهلون عن طيب خاطر أن بيع الوطن من الكبائر؟ فمتى ينتصر العراقي لانتمائه الوطني قبل غيره!!