(نهاران) - رواية سرد ونقد - للدكتورة لطيفة حليم |
سيجد القارئ أنّ هذه الرواية ليست رواية تقليدية من النمط المعروف، بل مجموعة أفكار ومشاعر وخواطر وحوادث وقعت في الماضي والحاضر تتضمن وصفاً للواقع الذي تعيشه بطلة الرواية (منى) وحياتها مع عائلتها وأصدقائها في مدينة مونتريال ونظرتها إلى ما كان ومقارنته بما يجري الآن مع نقد لاذع أحياناً للمجتمع والعادات والتقاليد والساسة الذين يحكمون الناس كما يشتهون والطغاة الذين لم يعتبروا بما جرى لأسلافهم من مهانة وقتل. أمّا لماذا (نهاران)* ؟ فلأنّ هذه الأفكار والحوادث حدثت في (نهار) واحد في مونتريال، ولكن سرد الحوادث والأفكار استمر في (نهار) ثانٍ تلاه في شيكاغو مع بعض الاختلاف في نوعية السّرد والتفكير. لكن اللغويين يأبون أن ( يثنّوا) النهار أو الليل ، فلا يقولون (نهاران) بل(يومان) وكذلك الليل لا يُثنّى فلا يُقال (ليلان) ، بل (ليلتان). لذا كنت أتمنّى أن يكون (يومان) هو العنوان. ربما كان للمؤلفة الحق في أن تقول بأنها تقصد الكلمة الدارجة ، العامّية ، أو المتعارف عليها بين الناس. ومهما يكن الأمر فالرواية هي من نوع (ما بعد الحداثة Post modernism ) بطلتها (منى) المغربية ذات الثقافة العالية التي ولدت في قرية أيتزر واستطاعت أن تشق طريقها في الحياة لتكون أستاذة جامعية. تقوم منى برحلة إلى مدينة مونتريال في كندا حيث يدرس ولدها وابنتها بعد أن حصلا على الهجرة فيها. تقيم منى معهما ، وكأم مغربية تساعدهما في أمور الطبخ وخصوصاً الأكلات المغربية التي يحبّونها ويحنّون إليها كـ(الهركمة) مثلاً التي لا أعرف ما هي ولا أظنّ أحداً سوى إخواننا المغاربة أو من عاش في المغرب يعرفها، وحبذا لو كانت المؤلفة وضعت شرحاً لهذه الأكلة التي أعتقد أنها لذيذة وكذلك لبعض الكلمات (المغربية) حتّى يكون القارئ على علم بها. بينما منى مشغولة في المطبخ تتلقّى (إيميل) من صديقتها رغدة وتتذكر في الوقت ذاته أيام طفولتها الجميلة حيث كانت تشرب الماء من كفّيْ أبيها الذي كان يغرفه من نبع الجبل دون أن تسقط قطرة ماء واحدة منه وهو يحكي لها حكايات شتّى عن جبل الأطلس المدوّر من كل الجهات (ص 55) . تلعب السياسة دوراً كبيراً في حياة منى حتّى وهي في مونتريال ، فتراها منبطحة على الفراش في غرفة ابنتها رهام وغارقة في تفكيرها في الماضي تناديها ابنتها رهام " ماما المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب على قناة الجزيرة. ص57) فتهب منى مسرعة لتقف أمام جهاز التلفاز تلتقط بعض الجمل وتتعجب قائلة : الجزيرة أشاهدها في مونتريال ؟ وتسمع : " المؤتمر يتصدّى للشبكة الإجرامية – المخدّرات – الأسلحة – غسل الأموال – نحن في حرب مع الإرهاب – إقامة مركز دولي لمكافحة الإرهاب ...إلخ الكلمة للأمين العام لمجلس التعاون – مدينة الرياض – مدينة الحبّ والسلام – صاحب السمو الملكي راعي المؤتمر. كلمة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي : باسم المنظمة العالمية الإسلامية نشكر المملكة السعودية لمواجهة آفة العصر، الإرهاب، الحوار بين الثقافات ، براءة الإسلام من الإرهاب .. الورود البيضاء على المائدة متراصّة لا تتحرك ... فجأة بدأت تتحرك ، الورود البيضاء تتحرك لأن تحية كاريوكا ترقص فوق الطاولة ، تغني لها سليمة مراد.. ص 59 ." " تلتقط تحية منديل علم وطن محتل تشد به كفلها، يتصاعد الرقص، تشرئبّ الأعناق . مركز المؤتمر الدولي مدينة الرياض . تقفل منى التلفاز في عصبية. تنتبه إلى الحاسوب ما زال مفتوحاً ، تكتب رسالة إلكترونية إلى صديقتها رغدة. ص 60 ". منى ليست في المطبخ دائماً، بل تخرج إلى شارع سان كاترين مع صديقتها نيفاء، الساكنة في مونتريال، وتتجولان في المخازن والمكتبات الموجودة فيه وتتبادلان أحاديث مختلفة في السياسة وخُدعها وشؤون المجتمع ومركز المرأة، حجابها ، نظرة الرجل إليها والعلاقة التي تحدّدها التقاليد الموروثة، والمظاهرات المساندة للقضيّة الفلسطينيّة. تقوم منى بسرد الحياة اليومية التي تمرّ بها ممزوجة بذكريات الماضي الجميل من طفولة بريئة مع الجدّ أو الجدّة إلى متاعب سياسية مع حكومة تشدّ الخناق على معارضيها. مزيج من واقع الحياة الذي عاشته منى وصديقاتها مع التخيّلات من الماضي السحيق الذي سجّله التاريخ وسطّره المؤرخ حسب هواه وعقيدته. معظم الحوادث هذه يغلب عليها البؤس وتنتابها الكآبة، وهل في تاريخنا المؤلم ما يُفرح أبداً؟ الحب والسياسة لدى منى شيء واحد يسبّب المشكلة ذاتها، وقد عبّرت عنه في مستهلّ روايتها بشعر شعبيّ. تسير وكأن شخصاً في داخلها ، يسيّرها ، يحادثها ، ينادمها، يحاورها ويتذمّران معاً مما يريان ويسمعان، في المجتمع حيث المرأة تُضام، حيث عصابات السياسة تزحف بالوطن إلى حتفه، حيث الجهلة يسيطرون على منابع الحياة ويستخدمون ذوي المعرفة والعلم بأبخس الأثمان ، ومَـنْ ليس في خطّهم الذي رسموه للكلّ ، يلقى الهوان والطرد والنفي وربما القتل. منى متشائمة لأنّها متعلمة ومُدركة لما يجري . هي تخشى القراءة " لأنّ القراءة تُخرّب دماغها، وتُحرّضها على السّلطة الحاكمة وتُشعرها بالغيرة من نعيم الآخرين." منى تُكمل جولتها السياحية والفكرية في شيكاغو في النهار الثاني مع صديقتها الفلسطينية الأمريكية مي، وهذه أستاذة جامعية في شيكاغو ذاقت عذاباً ومعاناة في بلدان الملح قبل أن تهاجر إلى أرض الأحلام وهي أيضاً لها ذكريات مريرة وكثيرة فيكون الحوار بينهما طويلاً يصبّ معظمه حول المشكلة الفلسطينية وتعاملِ العالم معها، ولها نظرات مختلفة عما تراه منى. يكون حوار مثلاً عن المتنبي الذي تنتقده مي بأنه لا يعجبها " أبي ليس سقّاءً مثل أبيه وأنا لا أطمع في قصيدة ، أتملق فيها رجال السلطة ، طلباً للمال." تجاوبها منى " صديقتي مي، زمن المتنبي بكل القدح الموجّه له أجمل من زمننا ولو بقليل. ألا ترين أنّ شعراءنا يتملقون السلاطين والأمراء والرؤساء والزعماء وحتّى الزملاء المتفوقين عليهم هدفهم الحصول على تذكرة سفر، أو علاج في أوروبا وأمريكا أو غلاف مالي أو جائزة أو مؤتمـر، أو ندوة، أو ...." ص 76. وتتزاحم الأفكار وتتضارب الآراء في مسائل عدة ، ولكن انتقاد منى للمجتمع وساسته ورؤسائه كان لاذعاً أحياناً. "منى تتذكر ولدها أسد، تنساب من عينيها قطرات الدمع ، يعز عليها فراقه. تحضن صغيرتها رهام التي تعولمت، وأصبحت على علم كبير بأن الوطن خرافة صنعها الطغاة والرؤساء والزعماء وبعض الشعراء." ص 129. ماذا يعني الوطن إذا كان عيش المرء فيه بؤساً وشقاءً وحياته مهددة ولا يستطيع أن يقول ما يجيش في خاطره ؟ ألم يقل عشرات الشعراء بل المئات منهم في مدح أي مكان يجدون فيه خيراً وعيشة هانئة واحتراماً لإنسانيتهم ووجودهم؟ ألم يقل المتنبي: وكلّ مكان يُنبت العزَّ طيّبُ. ثمّ إنّ التأقلم يجعل الإنسان يحبّ وطنه الثاني إذا كان فيه موفقاً ويحنّ إلى وطنه الأول إذا كان له فيه ذكريات جميلة ، كما يقول ابن الرومي :
|