سُرّ ما خَطرْ!!(18,17)..بقلم/ د.صادق السامرائي


 






- 17 -

أيّها النهر المسافر في وطن التأريخ

لا أدري أيهما أقدم , أنت أم الرافدين

أو أنكما ولدتما معا

فأمّنا الأرض لا تجيب

لكن الحياة على ضفافك

لا يمكن مقارنتها بما حول النهرين

والحضارة المعاصرة المتوهجة الساطعة على ضفتيك

غائبة على ضفافهما

أنت سعيد ضاحك مسرور

بقربك تتنعم المخلوقات بالأمن والأمان والبهجة

والنهران يذرفان الدموع

ويتوجعان من قسوة البشر على ذاته وموضوعه

وإنهياله على أيامه وتأريخه ومعتقده ومنطلقه وما فيه

النهران يتألمان

وأكاد أسمع الآهات المتدفقة من فم الأمواج

وعيون التيار المغرورقة

فالأشياء تتوجع في الماء ومن حوله وفيه

فيا ليتهما يعيشان ليوم واحد في بلادك وأهلك

فيستشعران دورهما الحضاري والإنساني

 

الأنهار جوهر إقتصاد الأرض

ونبع العطاء والقوة والقدرة على النماء

فكيف يتم إعتقال نهرين

في سواقي المآسي والويلات

وإطعامهما نارا ودماء

وفضلات شرور

وهل سيلد الماء جديدا وجميلا

في بلاد تشتاق للسلام؟

 

الأمم التي لا تتعلم من أنهارها

لا يمكنها أن تكون

وتنطلق في ميادين العصور

لأنها تتجاهل لغة الجريان

وإرادة التبدل والتغيّر

فتتأسن أفكارها

وتتحجر عقولها

فتسعى إلى سوء المصير

- 18

الغروب على ضفاف نهر السين

إحتفالية إنسانية طبيعية

تطلق أروع ما في المخلوقات

إنه سمفونية ذوقية ذات آيات إبداع فتانة

لا يمكن لخيالٍ أن يدركها

إلا في لحظة الإشراق الكبرى والوعي الأعظم

الغروب يلهب الخيال ويمنح الرسامين

أفكارا لا تستوعبها فرشاتهم ولا تتمكن منها ألوانهم

الغروب أصاب أئمة الإنطباعية بالدهشة والذهول

والهوس والوسواس بألوان الغيوم وأشكالها وتبدلات مزاج السماء

وسلوك الأشعة الناعسة المتهاطلة الشقراء

الغروب عرس إنساني ملحمي المشاعر والطباع

يعتلج بأنوار المعاني الملونة بالأمل والمحبة

الغروب على ضفاف نهر السين ولادات متكررة

أقصر من عمر اللحظة الزمنية الأرضية

ويحتاج لقدرات إدراك خارقة لوعيها

فهي تتبدل وتلد ذاتها وموضوعها وإيقاعاتها المتهادية

مع أمواج النهر الفياض بالإصرار على أن تكون الحياة أجمل

 

أشعر بالحزن من شدة الفرح

وبالقبح من فيض الروعة والجمال

ويعصرني الألم لأننا لا نطعم الأنهار من طيبات أفكارنا

ونحسبها ذات نفور

 

أنهارنا الفياضة ترحل عنا

فنحن نهملها

ونستغيث من المطر

كأننا لا ندري بأن الحياة في الماء

والأرض يلقحها الماء

فتنجب ما يسعدنا ويطعمنا

ولا نعرف مهارات الإبتهاج

ولا نخبُر الإستثمار في الماء

وديدننا أن نقطع ولا نزرع

ونردم ونهدم

فلا نبني ولا نتفاعل بمحبة مع الأنهار

فكيف لنا أن نتقدم ونتحضر

وما فينا يشدنا إلى البوادي

والتصحر الفكري والروحي؟