موروث وطني يحتضر في مواجهة الضياع والاندثار

 

شهد العراق عبر تأريخه الطويل ازدهار مختلف المهن الشعبية التي أصبحت بعد عقود من الزمان صناعات رائدة فرضت رواجها في الأسواق المحلية والأجنبية، بوصفها تعبير عن نتاج أبناء بلد عميق في حضاراته التي تمتد إلى مراحل غائرة في التاريخ الإنساني. فصناعة السجاد اليدوي والدباغة والنجارة والأوعية النحاسية والسلال والفخاريات والخوص والأحذية، وكثير غيرها من المهن التي كانت سائدة إلى عهد قريب في أسواقنا المحلية؛ لتأمين بعض متطلبات الحياة اليومية، أفرزت أبداعا متميزا في التشكيل ومهارة في اختيار ألوان الصور والأشكال التي تتخلل أسطح بعضها، فضلا عن كفاءة الأداء. ولا أخطئ القول أن المهارة اليدوية كانت تشكل الحجر الأساس لألق هذه الصناعات التي كان كثير من أنواعها يمارس من قبل النساء في المنازل لغاية ستينيات القرن الماضي التي شهدت المراحل الأولى لدخول مواد وتقنيات حديثة سهلت أساليب الإنتاج الخاصة بهذه الصناعات، واختزلت أغلب مراحل الجهد اليدوي الخاصة بهذه المهن بعد أن جعلتها في متناول العمال غير الماهرين، إلى جانب تقويضها المهارة اليدوية المعبرة عن أبداع افكري كان لعقود طويلة يشكل أبرز مميزاتها. وضمن هذا السياق يشير على الآثار إلى أن بعض هذه المهن تعد امتدادا لصناعات خلفتها حضارات وادي الرافدين، مثل الحضارتين السومرية والبابلية. وعلى الرغم من ايجابية الآثار الاقتصادية التي أفضى إليها اعتماد آليات التطور الصناعي والتقدم التقني المتسارع في تشكيل هذه الصناعات، إلا أنها تسببت في احتضار قيمتها الفنية واخراج عمالتها الماهرة من محيطها الإبداعي، ما أفضى إلى اندثار كثير منها، فضلا عن المساهمة بزيادة معدلات البطالة. ويمكن القول أن فاعلية التداعيات التي أفرزتها عملية التغيير السياسي في البلاد ساهمت إلى حد كبير في الانعطاف الحاسم الذي تعرض له واقع هذه الصناعات، ولاسيما ظاهرة الإغراق السلعي التي لعبت دورا كبيرا في انحسار عرض منتجاتها في السوق المحلي، وتراجع إنتاجيتها، إضافة إلى اندثار عدد منها بفعل توازن انخفاض أسعار البضائع والسلع المستوردة مع تواضع القدرة الشرائية للمواطن العراقي الذي خرج من اتون الدكتاتورية متعطشا إلى تكملة احتياجات منزله ومتطلبات عيشه، وبخاصة الشرائح الفقيرة التي تعاني من انخفاض إيرادها السنوي. وبعيدا عن الأبعاد التي خلفتها ظاهرة الاستيراد العشوائي في واقع عموم نشاطات الصناعة المحلية، إلى جانب سلبية آثارها على اقتصادنا الوطني، فإن النظر إلى واقع الصناعات الشعبية يأخذ منحى آخر يرتبط بموروثنا الوطني الذي يفرض على الجميع المحافظة عليه من سطوة التقنيات الحديثة التي اكتسحت الصناعات اليدوية في مختلف أرجاء المعمورة والعمل على تنميته عبر إقامة المدارس أو المعاهد المتخصصة بإدامة زخم هذه الصناعات، إلى جانب دعم النشاط الخاص الذي يعد البيئة الملائمة لترويج فعاليات هذه الصناعات والمحافظة عليها. ولا أخطئ القول أن الصناعات الشعبية تعد صناعة متكاملة تتميز بالمهنية العالية والحرفية في الأداء، بوصفها صناعة ولدت من رحم فضاءات واسعة تعتمد المعايير الفنية والتقنية والعلمية على الرغم من عدم إدراك بعض ممارسيها لهذه الاعتبارات بشكلها النظري.