دوامة العنف في المجتمع العراقي : إلى أين ؟! |
قليلة هي الشعوب التي لم تتعلم من أخطائها التمكررة ، وأقل منها تلك التي لم تتعض بدروس غيرها المتواترة . إما لأنها استمرأت حالة التخلف الفاشية فيها ، واستعذبت وضعية العطالة المجبولة عليها ، وإما لأنها استهانة بتجارب سواها رغم نجاحها ، واستكبرت الاستعانة بخبرة الآخرين رغم أهميتها ، على خلفية أوهام عراقتها التاريخية واصالتها الحضارية وقدامتها المدنية وأولويتها الدينية . ولهذا يبدو إن الصواب قد جانب الفيلسوف (ماركس) حين قال ((ليس في مقدور أمة أن تكرر الحماقات نفسها كثيرا"جدا")) . ولعل تخبط المجتمع العراقي في دوامات صراعه السياسي وأعاصير احترابه الاجتماعي ، وعواصف تهتكه الوطني ، وزوابع تفككه القيمي ، دون وجود بارقة أمل توحي بتطلع القيمين على مصيره والمسؤولين عن مستقبله ، نحو البحث عن مخارج واقعية تقيه شرور التمزق الوشيك ، والسعي لإيجاد حلول عقلانية تجنبه مآزق الانهيار المحتمل . نقول إن معطيات هذه الحالة الشاذة باتت تعزز الانطباع المتضمن ؛ انه ليس في وارد حسابات أطراف المعضلة العراقية ، الاهتداء إلى سبل تجاوز أخطاء الماضي للحفاظ على مكتسبات الحاضر ، كما ليس في نيتها تلافي انحرافات الحاضر لضمان سلامة المستقبل . وهو الأمر الذي سيجعل من الركون إلى منطق العقل وفيصل الحكمة ، أمرا"متعذرا"إن لم يكن مستحيلا"، لاسيما في ضوء تصاعد حمى التخندق الديني / الطائفي ، والتمترس القومي / العنصري ، والاستقطاب القبلي / العشائري ، والتحصّن السياسي / الحزبي . ولهذا فان إصرار المجتمع العراقي على ترويج ثقافة العنف البيني ، برغم كل المآسي التي حلت بأفراده ، واجتيافه لقيم الكراهية برغم جميع الكوارث التي جنتها مكوناته ، بات يعد في طليعة تلك الشعوب التي أثبتت أميتها السياسية رغم تشدقها بالديمقراطية ، وبرهنت على جهالتها الحضارية رغم تبجحها بالعقلانية ، وأكدت همجيتها الإنسانية رغم تغنيها بالتعددية . ذلك لأن المجتمع المغلوب على أمره ، والمستلب في وعيه ، والمنكوب في كبرياءه ، غالبا"ما يكون أشبه بالمرجل الذي يغلي بالنزعات العدوانية ، أو بالبركان الذي يمور بحمم الاحتقانات التعصبية . فإذا ما عجز عن تفريغ تلك الشحنات خارج كيانه ، وتمكن من إزاحة تلك الاحتقانات بعيدا"عن بيئته ، فان مسألة الانكفاء على الذات لجلدها ، والانتحاء صوب الأنا لتحطيمها ، ستغدو حقيقة واقعة لا مناص منها أو الالتفاف عليها . بحيث لن يتردد في البحث عن كبش فداء يسقط عليه جام غضبه ، ويثأر منه انتقاما"لخصاء إرادته . وهكذا يتحول البعض إلى دريئة لطعان البعض الآخر ، وينقلب هذا الطرف هدفا"لمرمى الطرف الآخر ، كما هو حاصل الآن بين مكونات المجتمع العراقي . فبصرف النظر عن التجارب المأساوية التي سبق للمجتمع العراقي أن خاض غمارها في عقد الأربعينيات من القرن المنصرم ، حين تعرضت الطائفة اليهودية العراقية إلى محنة التهجير القسري ، بعد أن استباحت حرماتها ونهبت ممتلكاتها وشردت عوائلها (ظاهرة الفرهود) ، بزعم موالاة أبنائها للحركة الصهيونية يومذاك ، مثلما وقع لآلاف العوائل العراقية المسالمة ، إبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن الفائت ، والتي انتزعت من بيوتها وجرّدت من مواطنيتها ، وهجّرت ، من ثم ، بين ليلة وضحاها إلى الحدود الإيرانية ، بحجة أنها موالية لحكومة الملالي في طهران . نقول انه بصرف النظر عن تلك الحوادث المؤسفة ، وما تمخض عنها من جروح سيكولوجية عميقة وندوب سوسيولوجية غائرة ، لم تبرح آثارها رابضة في قاع الوجدان العراقي الآثم . إلاّ أنها – ويا للعجب - لم تشكل دروسا"يتعض بحصيلتها العراقيين ، لا بالمانع الوطني أو الوازع الديني أو الدافع الإنساني ، لتفادي مظاهر العنف الطائفي التي اجتاحت ربوع العراق كما النار في الهشيم ، اثر سقوط الدولة وانهيار النظام وتلاشي السلطة ، نتيجة لتداعيات الغزو الأمريكي عام 2003 ، فضلا"عن استشراء نوازع التقتيل والتنكيل والتمثيل ، وكأن الضحايا ليسوا من أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والقومية الواحدة . والأنكى من ذلك فان مآسي الأمس وكوارث اليوم ، لم تقف حائلا"دون إعادة الكرة والانزلاق مجددا"صوب هاوية التطهير الجماعي ، كما يحدث الآن لأبناء هذا البلد (= العراق) من الدين المسيحي ، إمعانا"في تمزيق روابط نسيجه الاجتماعي ، وتفكيك عرى تآلفه الروحي ، التي طالما كانت من معالم تكوين المجتمع وملامح خصوصيته الحضارية . ولهذا وبرغم أن غالبية العلوم الاجتماعية والإنسانية لم تبرح تؤكد؛ إن المجتمعات البشرية كافة صغيرها وكبيرها قديمها وحديثها غنيها وفقيرها ، ملزمة بالخضوع لأواليات الجدلية الاجتماعية والانصياع لقوانينها ، بكل ما تنطوي عليه تلك الالزامات من ضرورة الانخراط ، ليس فقط في أتون التحرر من رواسب الماضي الأسطوري ، والانعتاق من مخلفات الوعي البدائي فحسب ، بل الإسهام في تطوير مقومات الحاضر السياسي ، والمبادرة في تثوير مستلزمات المستقبل الثقافي . فان الواقع لا يعدم وجود مجتمعات – كما هو حال المجتمع العراقي - تعاند مثل هذه الجدلية وتسعى للخروج على قوانينها الموضوعية ، وتشرع بالتقهقر، من ثم ، إلى حضيض بربريتها الأولى ؟! ليس لأنها تفتقر للمقومات المادية والمؤهلات المعنوية ، اللازمة لإحداث مثل ذلك التحول التاريخي وإنجاز مثل تلك القفزة الضرورية . إنما لعجزها المزمن في تقدير قيمة ما تملك من جهة ، وتخلفها المتوطن في إمكانية استثمار تلك المعطيات استثمارا"خلاقا"من جهة أخرى . وبدلا"من أن تجتهد في البحث عن أسباب عقمها الحضاري وانسدادها التاريخي للتغلب عليها وتخطيها ، فهي تلجأ إليها كمبرر لتقاعسها عن اللحاق بالركب الإنساني ، وكمسوغ لتخليها عن الإسهام في إثراء مدنيته . ولعل هناك من ينفي إمكانية حصول مثل هذه الردة أو وقوع مثل ذلك النكوص ، بواقع إن الفاعل الاجتماعي (= الإنسان) لا يملك خيار تخطي أو تجاوز تلك القيود الطبيعية / الحتمية ، من منطلق كونه موجود مغروز بالجغرافيا وكينونة مشروطة بالتاريخ وذات مؤطرة بالواقع . بيد أنه إذا كانت السيرورة الطبيعية نفسها تشهد ، في بعض الأحيان ، انحرافا"عن مسارها المفترض ، أو بالعكس تخطيا"لغائيتها المتوقعة ، وفقا"للمبدأ الذي ينص على ؛ إن لكل قاعدة شواذ . فلماذا ، والحالة هذه ، لا يعتري السيرورة الاجتماعية انحرافا"مماثلا"أو تخطيا"مشابها"، استنادا"لذات المبدأ ، سيما وان عوامل من مثل الإرادة والوعي ، تلعب في الحالة الأخيرة دورا"حاسما"، بالقياس إلى انعدام تأثيرها في الحالة الأولى ؟ . وهكذا فان صحّت احتمالات تعرض المجتمع العراقي لديناميات الجدلية الاجتماعية ، وتأثر مكوناته بعوامل اشتغال سيرورتها ، فالمرجح أنها ستكون ديناميات معكوسة – إن صح التعبير - تعمل على تفكيك مدماك وحدته الاجتماعية بدلا"من لملت شعثها ، وتحلل سبيكة قيمه الرمزية بدلا"من اتحاد عناصرها ، وتآكل معمار شخصيته الحضارية بدلا"من سمتنة أصولها . وعلى خلاف مواقف الشعوب الحيّة والأمم الواعية ، التي ما أن تتعرض للاختلالات البنيوية المباغتة ، والتصدعات القيمية المفاجئة ، والانكسارات النفسية الطارئة ، حتى تسارع إلى تغليب حسها الوطني على هوسها العصبوي ، وتبادر إلى كبح جماح انتماءاتها الفرعية وولاءاتها التحتية ، لصالح انتمائها الجمعي وولائها الفوقي . فان المجتمع العراقي يجد في تلك النوائب والمصائب ، فرصة مؤاتية لإطلاق العنان لمكبوته من نوازع العنف ، وسبيلا"ملائما"لتحرير مخزونه من دوافع الفوضى ، بحيث إن تواتر حالات تعرضه لمثل تلك الهزات السياسية والانعطافات التاريخية ، تبيح لنا الاستنتاج بان مؤشر خطه البياني آخذ بالانحدار ، وفقا"لمضاعفات المتوالية الهندسية ، مع تكرار وقوع كل حدث وتوالي حصول كل واقعة ، للحد الذي تنذر بارتداده إلى قبائل ما قبل المجتمع وأقوام ما قبل الدولة . |