ذكريات مصلاوية |
عبارة قرأتهاعلى شبكات الإجتماعية قادتني الى كتابة هذا المقال، العبارة تقول : " وطن المرء ليس مكان ولادته ، ولكنه المكان الذي تنتهي إليه كل محاولاته للهروب" ، البعد المعنوي لهذه العبارة قد يكون تجريديا للبعض وواقعيا للبعض الآخر، كل شيء نسبي يعتمد على وجهة نظر الشخص وفلسفته التي يعتمدها في حياته، ولكن في بعض الأحيان يجدر بنا التوقف عند بعض من محطات الحياة كي ننبه أنفسنا لأمور لم نكن نؤمن بها في يوم من الأيام. مدينة الموصل الحدباء * التي نشأت فيها وترعرعت لم تحاول إحتوائي في زمن ما أو أن تغمرني بدفء أحضانها، المدينة أصبحت كحلم قصيرأستيقظت منه لأتذكر القليل من أحداثه، ذكرياتي فيها إرتبطت ببعض الامور التي مازالت عالقة بذهني، أما التعلق الأبدي الذي يتكلم عنه الناس بمسقط رأسهم، فلم أشعربه ابدا. أحلى الفصول كان لدي هو فصل الخريف، عندما كانت الشمس تغمر باحة منزلنا الكبيرلتختلط خيوطها مع نسيمات الهواء المنعشة وهى تبعثر أوراق الكروم هنا وهناك، كان لدي موعد أزلي مع هذا الفصل مرتبط بالمدرسة التي كانت تفتح لنا أبوابها مع بدايته ، وفي الحقيقة موعدي كان مع ( العسلية ) التي كان يبيعها رجل عجوزمتجول يدفع عربة أمام باب المدرسة ليبيعنا الحمص بالكراميل ما أزال اذكر نكهتها اللذيذة، كان يقطعها قطعا و يناولنا إياها في أوراق دفترعتيق يمزقه لذلك الغرض. موعدي الاخر كان مع جدي العزيز وذكراه التي ما زالت ترافقني منذ صغري ولا اظنها ستتركني حتى الممات ، كنا أصدقاء نتشارك حبنا للقراءة معا، عندما أقترب موعد ولادتي قال لأمي "لقد رأيت سيدتنا مريم العذراء في منامي، ستصبحين أما لفتاة صالحة "، جدي العالم الديني الذي كان يتقن كتابة الشعر بعدة لغات بالإضافة الى علم الفلك والفقه والفلسفة، كان يعشق القراءة بلا حدود وعندما أجريت له عملية في عينيه، كنت أنا عيناه وكنت أقرأ له الكتب، وكم كان يتسلى عندما كنت أرتكب أخطاء في التلفظ، ولكنه كان يصححها لي ويعلمني معنى الكلمات... وفي الخريف نفسه وبعد مرورأكثر من 18عاما ، كان موعدي التالي مع قدري،إذ كنا في المركز الطلابي لجامعة الموصل ذات ظهيرة لتناول شطيرة (لفة) الفلافل التي كان مذاقها يختلف إن لم نأكلها على أنغام أغنيات أم كلثوم، كنت مع مجموعة من الصديقات ،لدى خروجنا من المركز،إقترب منا شاب أتذكر ملامحه كأنني التقيته بالأمس، شاب طويل القامة ذو بشرة بيضاء شفافيتها تلفت الأنظار، ومن بين جميع الفتيات إقترب مني وسألني عن الوقت، فأخبرته ، وإذ نظرت الى عينيه أحسست أن بؤبؤيهما يدوران، شكرني وقال لي بعفوية تتسم بشيء من الجدية "الساعات تدور والأيام تدور وأنت ستذهبين الى فرنسا"، ضحكت وضحكت جميع الفتيات ساخرات منه أو مني ، لا أدري ، ونسيت الموضوع وأهملته تماما .. كيف نحس بالانتماء الى مدينة أحضانها باردة كالصقيع ،(حينا) الصغير خيم عليه شبح الموت، وأصبحت المآسي تطرق الأبواب بابا بابا كي لاتنسى أحدا.( نكتل ) الصغير الذي كان يزورنا مع والدته، كان يمسك بذيل ثيابها لخجله الشديد، أصابه السرطان واصبح طيرا من طيور الجنة كما يقال، أما أخاه (وعد) فاصابه الجنون وانتحر..جارنا القريب منا سقط في النار التي أوقدها بنفسه كي يموت حرقا، روناك التي لم يتجاوز عمرها ال 18 ربيعا ترملت بعد أن قتل زوجها الشاب على أيدي المسلحين، أما (وليد) الطفل الصغير الذي ما زلت أذكره يلعب الكرة في المحلة، قطع الأرهابيون رأسه كضحية العيد ورموه أمام باب داره ، وجارنا الاخر، كانت غلطته أنه يعمل شرطي مرور، لتخترق جسده رصاصات ساخنه ويترك وراءه عائلة وطفلا رضيعا، والكثير الكثير من الناس الطيبين من محلتنا طالتهم يد الموت والمرض والفقر والبؤس . مدينة الموصل باتت طي النسيان ولم يتبق منها شيء في مخيلتي سوى اسمها المسجل في شهادة ميلادي وهويتي، تبعثرت الذكريات هنا وهناك، وتلاشت صور الناس الذين اعرفهم ، وقدرها بات في مهب الريح تلعب به كما تشاء، كأنه "البزونة"* التي كانت تتطاير في فصل الخريف لنتلقطها بأيدينا ونردد في أثرها "يا بزونة جيبيلي حنطة وشعير"..رحلت البزونة وأضحينا بلا حنطة أوشعير.. *هذه المدينة الجميلة والرائعة من اجمل مدن العراق اصبحت الحياة فيها غير طبيعية وهى إنعكاس لاحداث مرت بالبلاد من مآسي ونكبات ما زالت تأكل ابناءها او تشردهم .. *البزونة هنا تعني نوعا من النباتات البرية ذي زهيرات كروية بيضاء تتطاير في الهواء لخفتها ، وعلميا يطلق عليها زهيرات الأمل |