الزبير واحة نجدية بامتياز |
العراق تايمز ــ كتب / كاظم فنجان الحمامي: لا يمكن التسليم بكل الاستنتاجات الديموغرافية, التي آمنت بها الدراسات السابقة, والمرتبطة منها بعوامل الاستقطاب والنزوح المنتظم بين نجد ومدينة الزبير, فمعظم تلك الدراسات تتمحور حول الدلالات الزمنية للقرنين الميلاديين (التاسع عشر والثامن عشر), متجاهلة العمق التاريخي الطويل الممتد إلى ما قبل الإسلام. ولا يمكن التعلل بندرة المصادر المكتوبة لتبرير العجز التحليلي في تشخيص الصورة التاريخية بأبعادها الحقيقية, فالتقوقع المكاني, والاختزال الزمني ينسف العلاقات القديمة القائمة في هذا المحور, ويحرم هذه المدينة القديمة من أهم استحقاقاتها الحضارية باعتبارها الرحم, الذي ولدت منه معظم التفرعات النجدية المنتشرة الآن على ضفتي شط العرب, بين الملتقى والمصب. وإلا بما يفسر الباحثون ظهور المسميات المكانية على الجانب الإيراني من شط العرب, والتي نذكر منها جزيرة (الدواسر) جنوب عبادان (1), ومقاطعة (ﭽويبدة) الممتدة شرق عبادان بمحاذاة ترعة بهمنشير ؟, وبماذا يفسر الباحثون هذا التناظر المكاني المذهل, والتطابق الاسمي العجيب بين الأماكن والمسميات الموجودة في قلب الجزيرة العربية, وبين النسخ المستنسخة منها على ضفاف شط العرب؟. أن تكرار أسماء مدن (الفاو والبيشة والدواسر) يعكس صورة المسميات المنقولة(2) من نجد إلى البصرة, فالنجديون الذين استوطنوا منذ قرون جنوب العراق, نقلوا معهم حبهم لواحاتهم ووديانهم ومدنهم التي انحدروا منها, فأطلقوا مسمياتهم المكانية على البقاع الجديدة التي استوطنوا فيها, وبالتالي فأننا نقف اليوم أمام دلالات تاريخية وقبلية وبيئية ومعيشية مشتركة, تكشف لنا عن بعض ملامح الأسرار المدفونة تحت كثبان الرمال الفاصلة بين الزبير ونجد. فالزبير حلقة الوصل بين العراق والحجاز, والنافذة النجدية المطلة على الطرق المؤدية إلى موانئ الخليج, وبوابتها المزدانة بعطائها الدائم وخيراتها السخية, ولسنا مغالين إذا قلنا أنها بلغت من الشأن التجاري والثقافي والزراعي ما لم تبلغه الكويت والبصرة في مراحل زمنية متفرقة, ساعدها في ذلك ابتعادها عن خطوط المواجهة مع الغزاة, وخلو أجوائها من الأمراض الفتاكة, وتجانس تركيبة نسيجها الاجتماعي, فكانت مدينة الزبير إحدى الروافد الرئيسة, التي تغذت منها المدن العراقية بالرجال عن طريق موجات التدفق السكاني المتواصل, حتى استقرت قبائل (زبيد), و(العزة) و(طي), و(تميم) في جنوب العراق, فكانت (الخميسية) في (ذي قار) من أكبر المعسكرات القتالية المتقدمة, وكانت مدينة (سوق الشيوخ) من أقوى القواعد السياسية, وكانت مدينة (قلعة صالح) في (ميسان) من أشهر مدن التسويق الزراعي. وهكذا تحولت مدينة الزبير إلى واحة زراعية, وقلعة علمية, ونافذة اقتصادية, توسعت فيها المراكز التجارية لتأمين حركة القوافل البرية بين البصرة والشام, وتأمين حركة القوافل البحرية بين البصرة والهند, حتى زاد حجم قوافلها البرية على (5000) بعير في بعض الرحلات, وزاد حجم قوافلها البحرية على (30) سفينة في معظم الرحلات, فتوسعت أنشطتها بالطول والعرض, وكانت لها منافذ أخرى (برية وبحرية) على بنادر الخليج العربي, وما سوق (المناخ) في (القرين)(3) إلا نسخة تاريخية للأماكن التي كانت (تُناخ) فيها الجمال القادمة من الزبير والمحملة بشتى أنواع البضائع, وكانت لسوق (المناخ) ارتباطات وثيقة بسوق (المربد), الذي كان مربداً(4) لخيول القوافل ونافذة لتبادل البضائع والمنتجات الزراعية, ثم فُتحت في مدينة الزبير المكاتب المالية لتحصيل الرسوم, والمكاتب التجارية, وتعمقت روابطها بمدن العالم عبر خطوط القوافل للقارات الثلاث (أوربا وآسيا وأفريقيا). (1) تقابلها جزيرة أخرى على الضفة العراقية تحمل الاسم نفسه بين الواصلية والفداغيىة. (2) الحاج عبد الكريم الملا نوشاد وخلف الشيخ علي. (الإيجاز فيما تشابه من أسماء المدن في العراق ونجد). محاضرة ألقيت في قاعة الخطيب البغدادي, تحت إشراف الهيئة العربية العليا لكتابة تاريخ الأنساب في الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب يوم الأحد 28 محرم 1422 هـ , الموافق 22/4/2001 م . ونشرت في موقع كتابات على الشبكة الدولية في 12/7/2004 (3) القرين هو الاسم القديم للكويت. (4) المربد: موقف الإبل ومحبسها, وبه سمي مربد البصرة في مدينة الزبير.
|