قراءة في ( نعثل ) رواية لوفاء البوعيسي... بقلم/ د. أحمد الشيخ أحمد ربيعة |
في وسط الصفحة الاولى لروايتها تعلق وفاء البوعيسي تعويذتها ( الحقيقة لا تشيخ، والاديب بالذات، لا يسمح بهذا.....). بهذا الاستهلال تستفز الكاتبة ضمير القارئ وتبقيه على مدى صفحات الرواية متحفزا ومتسلحا برؤية نقدية لما جرى ويجري حولنا. كلمات قليلة تبز عين القارئ كلما فتح الرواية وتأخذ بيديه لتقوده في عالم التيوس المنكوبة ليس في ماضيها وانما في مستقبلها. استهلال لا يبقي المياه بلا حركة، ومن اجل خلق موقف اتجاه الحقيقة التي من المفروض ان لا نكون سبب في شيخوختها. جوهر الحكاية في رواية (نعثل) لم يكن سوى تجسيد لمرارة واقعنا المدور بوجوه متعددة في الشكل وبمحتوى واحد وهو سلطة الديكتاتورية وقمع السلطات اللامحدود. قمع الاخر الذي يجب ان لا يكون سوى خائن ومرتد حتى ولو كان خارجاً من ذيول السلطة وفكر يوما ما، حتى ولو للحظة واحدة ان يكون خارج اطار عقلية السلطة. الاخر الذي ستُسحق عظامه لحد تسمع صريرها ويهرس لحمه حتى لا تستطيع تميز اجزاء جسمه وعضلاته. من اجل ان تقدم وفاء البوعيسي مرارتها على طبق من ذهب، نقلت عالمها واحداث روايتها الى عالم أخر هو عالم الماعز والتيوس، ملامسة بذلك ذاكرتنا التراثية من كليلة ودمنة وغيرها في استنطاق الحيوانات، اِضافة لملامسة طفولتنا المرتبطة بقصص حيواناتها الناطقة في الغابة ومجمل افلام الرسوم المتحركة، التي بقينا ايام غير محدودة في متابعتها وبشوق، ربما لحد الان في حنين الى الطفولة والحيوانات الناطقة. في عالم الماعز الجبلي يقرر نعثل وهو ( تيس يافع، عظيم الكتفين، حتى لتبرز بوضوح عظام ترقوتيه، ولد من تزاوج عنزة حمراء، عجفاء الضرع، حليقة البطن، لكثرة تمرغها على الحصى، مشقوقة الأذن، بذكر رمادي مسن، مشروم الشفة العليا، اجدع الأنف، إحدى خصيتيه مرفوعة، عن صفن يتدلى فارغاً. كان مسنن الأظلاف، أجرد، الشعر القليل بوجهه، خشن ومتناثر، اما شعر جلده، فمنتصب باهت يميل للشُقرة. ص 22)، ان يقوم بعملية انقلابية ضد القائد التقليدي للقطيع، ساليس ( كان عفياً، رغم مشارفته على الاكتهال، انحدر- بالتناسل العفوي- من سلالة عريقة من الماعز، على شفا إحدى الجروم الحادة بالجنوب، والمطلة على ملتقى لعدة حدبات، رَبعٌ القامة، صلب الكتفين والفخذين، خصره المكسو بالشعر الاحمر البني، مزموم وضامر، شعر جلده مُسرح، غزير، مستوٍ للغاية، في عينيه حيرة، يبدو دائماً مستغرقاً في التفكير. ص 15). ساليس ( نفس وزن ادريس) الذي زاده العمر حكمة وواقعية وحرص وعاطفة في تعامله مع قطيعه ومستقبله، الا ان العمر سلب منه، من جانب اخر، حماسة وفتوة الشباب ولغته. يتعامل مع احتلال طيور الباز القادمة بطريقة تجنب قطيعه الصدام المباشر واراقة الدماء، خاصة ان ساليس لم يكن اصلا ذو نزعة دموية، فهو ميال للحلول السليمة والهادئة. بهذا الخيط يمسك نعثل الطامع الى قيادة القطيع ويقود انقلاباً مع مجموعة من التيوس الشباب تحت شعارات تمس مستقبل صغار الماعز ومن اجل حياة افضل للماعز وحرمة وديانه وشرف قمم جباله ومن اجل حكومة مدنية دستورية يكون الماعز فيها مصدر السلطات. ما ان يركب نعثل ظهر السلطة، حتى يبدأ بعملية تدمير ممنهجة للماعز الجبلي ( رغم كل الانشقاقات في جبهته)ويدفعه للبحث في الصحراء عن نبتة الفطل الوهمية التي ستزيد من خصوبة القطيع، يبعث نعثل بخيرة شباب الماعز ومقاتليه وتنكوقراطيه في كفاح مرير مع الصحراء ومع هجمات الماعز الصحراوي، الجلف والدموي. بموازاة هذا يجري التخلي عن شعار الحكومة الدستورية ويقوم تيس التيوس وقائده التاريخي ( نعثل) بتصفية منظمة لكل من شاركه الانقلاب، وتكون التصفية البشعة لأزور رئيس مجلس التيوس والذي قادته الصدفة ليشك بتعاون نعثل مع الباز المحتل. هذا الباز الذي سيعود منتصرا، بينما تقف الرواية على حال نعثل ( حك قرنيه على الصخور بقلق، ارغى بخفوت، ونز لعاب من بين شدقيه، انتفض يهز قرنيه، ويحك بقوائمه على الارض الصخرية، متأملا انصرافها......خرج من الكهف متشامخا، رافعا قرنيه للأعلى، يسير وسط الاناث والذكور المسنة، انعطف يميناً، متمشياً خلال درب ضيقة، لكنها تطُل بطاقة كبيرة على السماء، فزع من جديد، رأى سربا من الباز، يتحرك صوب الوهاد، فعاد على أثرِه لا هثاً، وكمن هناك. ص 215). صور الماعز بتوصيفات وفاء البوعيسي المفصلة والدقيقة واستعاراتها لحركة القرون والاقدام وحك الجلد في الصخر وتوصيف شعرها وشهواتها الجنسية وغرائزها التسلطية والانتهازية هي صور اخرى لوجوهنا ولوجوه قادتنا التي لا تستطيع ان ترى وجوها الا في المرآة السحرية. يبهرك عالم الرواية والتوصيف للجبال وعالم الماعز واللغة المتينة والمختارة بأناقة. جمل قصيرة فيها الكثير من اللغة الشعرية. خلفية الكتابة كمحامية متمرسة ساعدتها في تمتين اللغة والصياغة القانونية للكثير من افكارها وبرنامج الحكومة المدنية والدستورية. عمدت الكاتبة ان تكون فصول الرواية الاربعة والمقسمة الى اقسام بحيث لا يتعدى القسم الصفحتين او الثلاث الا ما ندر. هذا الاسلوب في التكثيف والتقسيم سهل للقارئ ان يتواصل في القراءة مع محطات قصيرة للاستراحة، وبذلك يبقى ذهنه مرن، متيقظ ومفتوح يتعامل مع تطور الاحداث في الرواية بحيوية تسمح له بربط ما دار وما يدور حوله. رواية نعثل هي معابثة جريئة الى حد جنون لسلطة العقيد ومؤسساته الثقافية والامنية، لم يكن هناك ترمز ولم تختفي الكاتبة وراء وجوه اخرى. هذا العالم الافتراضي لها لم يخفي ما ارادت ان تقوله الكاتبة ومرة واحدة في وجه السلطة. لم تترك لحظة او فصلا الا واسقطت عن سلطة القذافي اوراق توته وتظهره بذاك المسخ المعادي للحياة المدنية والدستورية. لم تترك موضعا من وجوه السلطة الاخلاقي والسياسي والاجتماعي والثقافي الا وضربت فيه. انها قالت كل ما تريد مرة واحدة وكأنها تبصق وللمرة الاخيرة في وجه السلطة والاستبداد. لم تتحدى بجرأتها هذه سلطة الاستبداد وانما تحدت الوقوع في المباشرة ولغة الخطاب السياسي والصحفي. لا تكمن قيمة رواية نعثل في جانبها الفني وانما في الموقف الفعلي والمتحدي للكاتبة وفاء البوعيسي، هذا الموقف الذي سعى البعض لرش الغبار عليه خوفا من اثر الرماد تحت الجمر. فوفاء لم تكن منتمية لأي حزب او حركة سياسية سوى تيار حرية الرأي والتعبير وكرامة الكلمة الصادقة وشرف الموقف. التقى العقيد القذافي بها وكان قد قرأ رواياتها الاخرى ماعدا نعثل، ربما كان هذا من حسن حظها حيث ان احد مساعديه قد قرأها. ابدى القذافي أعجابه بما تكتب وارادها ان تكون قريبة منه وأحد حواريه، لتجسد افكاره في روايات وحكايات واقترح البعض من افكاره عليها. بديل هذا الخيار المر لم يكن امامها كما طرح العقيد سوى القراءة الامنية لأجهزته الامنية، والتي يكون احيانا هو نفسه في غفلة عن تصرفاتها المنفلتة بسب انشغالاته او تكون مرمى هدف للإسلاميين الذين افتوا بهدر دمها وتركوا بلطة على باب مكتبها للمحاماة. لم تبع وفاء ما كان يمكن ان يبيعه الاخرون وابقت كفها قابضة على الجمر واختارت الهرب واللجوء الى هولندا تقديسا لشرف الكلمة وحرية التعبير والاستنكاف عن تلميع جزمة الاستبداد. رواية نعثل كتبت في 2007 ولم يجد من يجرأ على نشرها وبتردد الا في 2012 بعد سقوط نظام القذافي.
انها مفخرة للثقافة الليبية ومفخرة للثقافة العربية حين يرفض المثقف ان يكون رباطاً في جزمة الجلاد والمستبد وصاحب السلطة ويختار الغربة وبساطة العيش والتهميش على نعيم حواري السلطان.
نعثل رواية لوفاء البوعيسي 215 صفحة من الحجم المتوسط، اصدار دار الرواد في طرابلس – ليبا. لم يشر الناشر الى اسم مصمم الغلاف.
|