الحرية، تلك الأغنية التي يصدح بها البلبل صباحا، تلك الغاية التي ينشدها الإنسان، من مولده إلى موته، تلك الخيوط الذهبية للشمس والتي تداعب جدائل الحسناوات، وتعانق بشرة الكادحين، لتحيلها لسمرة، كسمرة الأرض، تلك القصيدة التي يرتلها الثوار، من أول شرارة للثورة، إلى أن يتحولوا بقدرة الأنظمة السياسية إلى خونة، تعلق رؤوسهم على المشانق، وتقطع أرجلهم وأيديهم من خلاف، بل وحتى ألسنتهم. وقد اوجد سياسيو القرن التاسع عشر والقرن العشرين، مصطلحات أخذت في اغلبها من نماذج الدول والحضارات القديمة، خاصة الإغريق والرومان وغيرهم، كالديمقراطية و الليبرالية والراديكالية والدكتاتورية..الخ. إنها مفاهيم متداولة، حفظها الحاكم والمحكوم عن ظهر قلب، فكلما استبد الحاكم، خرج عليه مواطنوه، متظاهرين ، أو ثائرين، مطالبين بالديمقراطية، فيما يرد عليهم هو بأسلوب ديمقراطي، تعرفه كل شعوب الأرض المقهورة، وللسلطان أو الحاكم أو الملك أو الرئيس، أعوان وأنصار وجلاوزة، يسبحون بحمده ويقدسون له، وهم طبعا مواطنين أحرار نجباء وشرفاء ومخلصين حسب ما يراه الحاكم، الذي حول حياتهم متلاعبا بالأطوال الموجية من اللون الأسود إلى اللون الوردي، وأشبعهم بعد جوع، وكساهم بعد عري، و (لبسهم نعل) بعد أن كانوا حفاة، ولهم الحق في ذلك، فنظرتهم القصيرة وجوعهم للدنيا وطمعهم، حصر تفكيرهم بالنعم الزائلة، فأكلوا السحت الحرام، فيما جاع إخوتهم، وتعرى صغارهم، وتعالت أصواتهم منشدين أغنية يتغنون فيها بالراحة والسلام، أما الجلاوزة والمحيطين بالحاكم، انشدوا أغنية (الله يخلي الريس). في حين اغفلوا كل المفاهيم السماوية والدنيوية، التي تحض الإنسان، أن يهتم بشؤون الآخرين، كما يهتم بشؤونه، وان لا يتجاهل مطالب ابني جنسه، إذا كان متوازناً، وان الاستماع الجيد، خير من كل حديث. وبين الفريقين يقف صف لا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يدخل الدنيا ويخرج منها، دون أن تكون له وجهة نظر أو موقف، يرددون ما يلقى على مسامعهم، يهزون برؤوسهم، ويرفعون أيديهم بالتأييد، لكلا الفريقين، يرفعون أيديهم بالدعاء وعلى ألسنتهم يختمونه بآمين، والأغرب أنهم ربما يدافعون عن قضية لا يحيطون بها خبرا، وليس لهم بها علما. وهم موجودون ألان بيننا، يدافعون عن رأس السلطة، ويهاجمون من ينتقده، ولا يرضون بانتقاده، وهم من أوائل المتضررين، لا ناقة لهم ولا جمل في الأمر، يمارسون دور الرقيب على أفواه الآخرين، أنهم مواطنون، يمارسون حقهم في الدكتاتورية..سلامي.
|