دروب العفة الموحشة


لازال كلام ذاك الرجل الطاعن بالسن وهو يرتدي البدلة الشبه زرقاء لان الشمس حفرت بياضاتها فيها لتسرق حدة اللون لطول العمل والوقوف تحت اشعتها , ولازلت اذكر كيف ان الرتقات الفوضوية بالخيوط المتعددة الالوان في تلك البدلة تسرق النظر وانا اجاذبه اطراف الحديث العفوي الجميل بدون تكلف او تزلف او تسويف .
لم يكن لقائي بذاك الرجل طويلاً وليس لي معرفة سابقة به , بل كان لقاء صدفة جمعت بيننا وانا اقله من مكان الى اخر حين كنت اعمل سائق سيارة اجرة في زمن كان فيه الاميون واشباه المثقفين ببدلاتهم الزيتوني والاخرى ذات ( القطعتين ) يتصدرون المشهد ويتربعون على عروش المناصب ليتحكموا برقاب الشرفاء من ابناء مدينتي , وكل ما تبقى ورسخ في ذاكرتي من كلام ذاك الرجل اصبح اليوم قاعدة للحكم على كل ما اراه من تعاقب الحكومات على وطني والتسلط على رقاب الفقراء من ابناء شعبي.
كان برفقتي وكنت اتذمر واشتكي من ضيق العيش وغياب فسحة الامل نتيجة الظلم والقسوة والبطش في حكم النظام آنذاك , والعراقيون اعتادوا ان طالهم الضيم ان يسبوا الحكومة لأنها السبب في كل معاناتهم على مر السنين , كان ينظر الي بترقب وانا اتحدث بألم وحرقة وقاطعني : لكن يبدو انك تعمل في وظيفة حكومية وهذا ما يتضح من طريقة حديثك وشكلك واناقتك ؟ فابتسمت في وجهه بعد ان كانت تعابير الغضب تضيف لون ازرقاً لتلك التجاعيد التي حفرتها السنين على شكل اخاديد في وجهي رغم اني لم اكن كبيراً في السن واخبرته : باني ممن يحسبهم الناس اغنياء من كثرة التعفف وممن لا يسألون الناس إلحافا .
فقال لي لك نصيحة من غريب لغريب : اياك ان تسب الحكومة ! ( كنت استمع لحديثه باستغراب فان مظهره وكبر سنه لا يوحي بانه من ازلام النظام او يعمل لصالح الحكومة ! فما الذي اسمعه من حديث ؟ ) واستدرك بالحديث : لقد فتحت عيني في هذه الدنيا وانا ارتدي بدلة العمل والى اليوم وقد بلغت من الكبر عتياً ورغم تعاقب كل تلك الحكومات في تاريخ العراق .. وانا ارتدي تلك البدلة حتى وصلت الى قناعة باننا وقود لتلك السنين لتستمر في تعاقبها , واذا رغبت بالخروج من اللعبة فاصرخ بأعلى صوتك رافضاً لذلك الواقع المرير لتجد بانك لم تنجح بالمطاولة وان هنالك من حل مكانك بعد ان خسرت من اجل ان يستفيد غيرك .
حينها قررت ان اقاطع لان الحديث اصبحت فيه فلسفة لا افهمها ! وما تقصد بان ننجح بالمطاولة ؟ , قال سأجيبك على عجالة لان محطتي اقتربت : علينا ان لا نترك العِفة وان لا نستوحش دروبها فلو تعففنا جميعاً لتكافلنا وتوحدنا واستجاب الله دعوتنا بالخلاص من الحاكم الظالم , لكنني ارى الناس تتسابق من اجل اسراع عجلة الظلم واستمرار المعاناة لعقود اكثر بكثرة الولاءات وسهولة بيع المبادي والقيم .