لا أدري كيف تدخل في روع الناس فرية إن الديمقراطية كمؤسسات وممارسات ، يمكن أن يكتب لها النجاح في بلاد العجائب والغرائب ، أو إن شئت بلاد ألف حيلة وحيلة (مع الاعتذار لمؤلف ألف ليلة وليلة) ، فضلا"عن توطين قيمها في العلاقات وترسيخ مبادئها في الذهنيات ، في ظل بقايا دولة لا تملك سوى أطياف سيادة وهياكل سلطة ، وتحت إشراف مخلفات قانون لا يحتكم إلاّ على أضغاث هيبة وأوهام قوة ، وفي إطار شظايا مجتمع لا مرجعية له سوى نخوة القبيلة وفزعة الطائفة ونزعة العرق . بحيث أضحى من السهولة بمكان أن تنطلي على الغالبية العظمى من العراقيين ، كل أصناف الحيل وتمرر أمامهم شتى ضروب الخدع ، دون أن يطرف لهم جفن أو ينطق فيهم لسان ، اللهم إلاّ ما يتناها لمسامعهم من طرائف يتندرون بها حيال استعصاء داء الفوضى واستشراء وباء الفساد ، عبر مظاهر الاحتجاج بالنقد الساخر والنكتة اللاذعة ، وذلك أضعف الإيمان . وهو الأمر الذي أتاح المسوغات وأباح التبريرات لأولئك الذين يبرعون الاصطياد في المياه العكرة ، بغية التخفيف من هول الصدمات السياسية والتلطيف من حدة الاحتقانات الاجتماعية ، التي بات المجتمع العراقي موبوء بها ومبتليا"فيها ، على خلفية ما بات يعاني من صورية الدولة وشكلية القانون أسمية النظام . مشيعين بين العامة والخاصة خرافة انه ؛ لا تثريب على من أدمن القمع من السلطان وتربى على الخوف من السلطة ، إن يظهر بعض مظاهر الطيش في التصرف ويمارس الزعرنة في السلوك ، لحظة إحساسه بالانعتاق من القيود التي كانت تكبل إرادته ، والتخلص من المحرمات التي كانت تعطل وعيه ، والتحرر من الاكراهات التي كانت تشل طاقاته ، بعد أن حظي بأجواء الحرية التي حرم منها ، ونال فرصة التمتع بنعمة الديموقراطية التي أبعد عنها . ولكي يعي الإنسان العراقي - الذي طالما كانت حقوقه سلعة للمتاجرة ومصائره بضاعة للمساومات – ما يجري حوله من انتهاكات وما يحاك باسمه من صفقات ، تحت يافطة أوهام الفكر القوموي الفج ، ونظيره الماركسوي السطحي ، فضلا"ترهات الخطاب الديني المتطيف و / أو المسيس . تلك التي لم يتوانى جميع أربابها وحشد ممثليها بالعزف على ذات الأوتار المعنية بحقوق الإنسان وحرية الجماهير، في التعبير عن تطلعاتها السياسية والإفصاح عن إرهاصاتها الإيديولوجية ، دون أن تعنى بما يوازي حرصها الدعائي المصطنع ؛ بتربية مريديها وتثقيف أنصارها بحقيقة انه تحت أي نمط من أنماط الدول يمكن لهذه الأحلام أن تتحقق ، وفي إطار أي نظام من الأنظمة يمكن لتلك الطوباويات أن تتجسد ، مكتفين بترديدهم لصيغة الدولة الوحدوية المجردة في الحالة الأولى ، والدولة الاشتراكية المفترضة في الحالة الثانية ، والدولة الإسلامية المأمولة في الحالة الثالثة . نقول انه لأجل أن يتخطى العراقيون هذا الخانق التاريخي ويتجاوزون ذلك المأزق الحضاري ، لابد أن يؤمنوا بمسلمة – وان نحن ضد المسلمات والبديهيات في إطار الاجتماع الإنساني – إن الحرية التي يتغنى بفضائلها كل من هب ودب ، سوف تتحول إلى فوضى عارمة لا مناص من استحالتها إلى عبودية قاسية ، إن تمت الدعوة لها بغياب سيادة الدولة الوطنية الموحدة فوق كامل إقليمها السياسي والجغرافي والاجتماعي . وان الديمقراطية التي أضحت بمثابة تعويذة لكل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتجمعات الثقافية والتكتلات العشائرية ، سوف تنقلب إلى استبداد أهوج لا تلبث أن تمارسه الأكثرية المجيشة ضد حقوق الأقليات ، والجمهور المستنفر ضد حرية الأفراد ، والتوحد القسري ضد تنوع المكونات ، والايديولوجيا المتعصبة ضد سوسيولوجيا المعاش ، والنوازع المؤسطرة ضد وقائع التاريخ ، إن جرت المناداة بها في ظل تغييب سلطة القانون وإسقاط هيبة أحكامه . بمعنى إن التمشدق بضرورة الديمقراطية للجماهير المضطهدة والمحرومة ، والتباهي بأهمية الحرية للجماعات المقصية والمهمشة ، دون مراعاة أسبقية سيادة دولة المؤسسات فعلا"وترسيخ حكم القانون واقعا"، لا تعدو أن تكون ضربا"من ضروب الخرافة ، في بيئة لم تألف بعد مكوناتها طبيعة الالتزام الشخصي ، ولم تعاني عناصرها مكابدات الوازع الذاتي ، حيال حقوق الآخر في التنوع وحرمة الغير في الاختلاف . ولذلك فان الديمقراطية هي الدولة وقد بسطت سلطانها فوق جميع الميول والاتجاهات ، بصرف النظر عن ماهية الأصول الاثنية والمنابت الطائفية والارومات القبلية ، كما أنها القانون وقد فرض هيبته وخلع سطوته على كل الأفراد والجماعات ، دون الاحتكام لمستوى المنصب وقوة الجاه ومصدر الثروة . وهنا تبدو عبارة عالم الاجتماع السياسي ((آلان تورين) في محلها حين كتب يقول ((إننا لا نستطيع الاكتفاء طويلا"بذلك الوهم الذي يماهي بين الديمقراطية وبين الحدّ من تدخل الدولة)). وإذا ما وضعنا جانبا"ألاعيب اللغة السياسية ومهاترات السجال الإيديولوجي ، التي يتقن فنونها دهاقنة التضليل الفكري والتجهيل السياسي والتهويل الديني ، لجهة تمجيد الديمقراطية كمفهوم لا كتطبيق ، وتعظيم قيمها كمبادئ لا كسلوك . فان تواتر التجارب الواقعية وتكرار الممارسات الفعلية ، أثبتت – حتى في أرقى وأنقى بلدان الأنظمة الديمقراطية – إن هذه الأخيرة لا تنضج ثمارها ولا تؤتي أوكلها ، إلاّ في ظل دولة استطاعت أن تجعل من سلطتها المركزية ضرورة لا غنى عنها ، في حياة المجتمع الذي تضيط توازناته وتتحكم بتناقضاته من
جهة ، وتحت حماية قانون وضعي أو عرفي تمكن من أن يحتل أهمية لازمة في ضمير الأفراد ، ويستحوذ على مصادر وعيهم الجمعي من جهة أخرى . والحال فما قيمة الادعاء الذي يظن أن تجربة الديمقراطية في العراق هي من نفس طينة نظيراتها الموجودة في أمريكا الشمالية أو بريطانيا أو السويد – على سبيل المثال لا الحصر – من حيث توفرها على ذات المعايير العامة والخصائص المشتركة (انتخابات برلمانية وبلدية دورية ، فصل بين السلطات ، تداول سلمي للسلطة ، ضمان الحقوق والحريات العامة ..الخ ) . في الوقت الذي إن سلطة الدولة في الحالة الأولى (أي العراق)، هي بالواقع سلطة (مشخصنة) يمارسها قادة الطوائف وزعماء الاثنيات وشيوخ القبائل بصورة اعتباطية ، لا تنم عن الوعي بمدلولها الانساني والحضاري ، بقدر ما تشي عن الإيثار الشخصي والتغالب المصلحي ، بعد أن أفقدوا الدولة طابعها المركزي عبر تقليص سلطتها السيادية ، وألزموها بالتنحي عن وظيفتها المؤسسية من خلال لعبة المحاصصة الحكومية . هذا في حين أن سلطة الدولة لدى الطرف الآخر خاضعة لمؤسسات معنوية ومشروطة بآليات وضعية ، للحد الذي باتت معه تعتبرالجهة الوحيدة التي تحتكر عناصر القوة لفرض النظام ، والمصدر الوحيد لشرعية استخدام العنف لحماية الأمن ، والحائز الأوحد لمشروعية تقنين الإكراه لضمان الاستقرار . كما إن القانون هنا (= العراق) لا يعدو أن يكون المرادف لقوة العادة وسلطان العرف واعتبار الحسب والنسب ، بعد إن أفرغ من مضمونه وجرد من هيبته وأزيح عن وظيفته ، هذا في حين نرى العكس هناك (=المجتمعات الديمقراطية) حيث تحول إلى معطى ضروري من معطيات حياتهم اليومية ، وأمسى مكون أساسي من مكونات علاقاتهم الاجتماعية ، وأصبح حافزا"جوهريا"من حوافز تطلعاتهم الحضارية . وعلى ذلك فليس هنالك ما يدهش أو يثير الاستغراب حين نلاحظ إن دولة اللاقانون ، هي البيئة الأنسب لحضانة وازدهار ظاهرة الفساد ، والمحيط الأوفر ضمانة لتكاثر أشكاله وتناسل أنواعه ، سواء انبثق عن قاعدة المجتمع نتيجة لانحلال وازعه القانوني أو هبط من قمة الدولة كمحصلة لهزال رادعها السلطوي . وهو الأمر الذي ضربت عليه المثل حالات الفساد المالي بمختلف أنواعه والإداري بشتى أشكاله ، التي عمّت ربوع المجتمع العراقي بكافة مستوياته الرسمية والشعبية ، وبمختلف قطاعاته العامة والخاصة ، بحيث طالت الكثير من رموز الدولة وكبار المسئولين في الحكومة ، ناهيك عن المفاصل الأدنى في المسئوليات والأقل في الصلاحيات . مما سيرجح ارتفاع معدلات انتشاره أفقيا" وتعميق مستويات تغلغله عموديا"، طالما إن حكومتنا سادرة في زعمها إننا نعيش عصر التحول الديمقراطي في ظل دولة القانون ، دون أن ينتابها الحرج أو تشعر بوخزة الضمير، حيال جملة من المعطيات الفاقعة والتداعيات الصارخة التي أضحت من معالم هذا البلد الأسطوري في كل شيء ؛ إذ لا زال العراق يتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا"في العالم . وما برح العراق يحتل المرتبة الأولى من حيث المخاطر التي تحيق بحقوق الإنسان وتهدد الحريات العامة . وما فتئ العراق يعتبر من أشد بلدان الدنيا سخونة من حيث معدلات العنف الاجتماعي والجريمة السياسية والتطرف العصبوي . وما انفك العراق من أكثر شعوب المعمورة استخفافا"بالقانون وانتهاكا"للنظام . وما زال الفرد العراقي من أبعد خلق الله امتثالا"للسلطة وانصياعا"للدولة . وبعد كل هذا وذاك يأتي من يحدثك بجذل عن الديمقراطية ، وكيف إن الشعب العراقي بات قاب قوسين أو أدنى من ولوج رحابها واعتناق مثلها واجتياف قيمها والتنعم بخيراتها . فهل من المنصف والمعقول أن نشيع وسط ركام الخراب السياسي والانهيار الاجتماعي والدمار الاقتصادي والتحلل الأخلاقي والتفكك القيمي ، إننا تجاوزنا ماضينا الملفع بالمآسي وتغلبنا على حاضرنا الموبوء بالفواجع ، بحيث بات في مقدورنا وضع خلافاتنا خلف ظهورنا ، والاطمئنان لتوافقنا على أن نبني العرق من جديد ، بعيدا" عن التحزب والتعصب والتمذهب ؟! . أنها وأيم الحقّ لخرافة أن ينعم العراقيين بالديمقراطية مثل بقية الخلق ، اللهم إلاّ إذا كانت المرادف لحرية النهب والسلب للمال العام ، والقتل العشوائي للناس الأبرياء ، والاتجار بمصير البلاد ومصائر العباد .!!