الرفض بالنسبة لأمريكا معناه نهر في العراق

لـ سوتايل نيوزفاندال

مقال مترجم 
الأميركيون يجهلون الكثير عن الجغرافيا، ففي العام 2006، وبعد مرور ثلاث سنوات على حرب دموية على العراق، لم يتمكن 63 ٪ من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-24 أن يعينوا البلد "الهدف الغني" على الخريطة.

ولكي نكون منصفين، يمكن لنصفهم فقط أن يحددوا مكان ولاية نيويورك على الخريطة، لذلك فمن غير المستغرب أنه، على الرغم من هيمنة هذا البلد حينها على نشرات الأخبار، لم يتمكن هؤلاء الأميركيون من تحديد المثبت الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية على الخريطة التي ما تزال تعج بالقواعد العسكرية الأمريكية وانتشار الجنود.

لقد مضى ما يقرب من ثماني سنوات على إجراء هذا الإختبار في الجغرافيا وما يزيد قليلا على عامين منذ أن أعلن الرئيس أوباما النصر الباهض الثمن عندما عاد بعض من الوجبة الأخيرة من القوات إلى ديارهم. في آذار من العام 2012، وبعد مضي بضعة اشهر فقط على ما ارتآه الرئيس أوباما بشأن رحيل الأمريكيين بـ"رؤوس مرفوعة عاليا"، قال نائب مستشار الأمن القومي الحالي أنتوني جي بلنكن، في مركز التقدم الأمريكي إن "العراق اليوم أقل عنفا، وأكثر ديمقراطية وازدهارا" مما كان عليه "في أي وقت من تاريخه الحديث".   

في تموز من العام 2012، راهن بلنكن متسلحا بهذه الرؤية الوردية عن تاريخ العراق "الحديث"، ، على مستقبل العراق المشرق عندما كتب بتفاؤل ريغاني (نسبة إلى رونالد ريغن) يملؤه الدفء، إنه "الصباح في بلاد ما بين النهرين"! ولقد كان كذلك. لقد إختفى العراق، بسبب جميع المقاصد والأغراض، من الخريطة حينما تركته أمريكا جراء الغضب العارم الذي قامت بإطلاقه على الشعب العراقي لأجل نزوة وبشكل غير قانوني.

وكما حالها بالنسبة للجغرافيا، فإن أمريكا لا تسأل.

الآن وقد عاد العراق إلى عناوين الأخبار الرئيسة وكما هو الحال في كل يوم منذ الإحتلال في العام 2003، فإن هناك قدرا كبيرا من الحزن في بلاد ما بين النهرين. وكما هو الحال مع كل يوم منذ المطاردة بشأن أسلحة الدمار الشامل التي لم يعد من الممكن تبريرها، تبقى قصة العراق محجوبة بالنفي حول مسؤوليات أمريكا عن دولة ذات سيادة تعرضت للغزو بحجج واهية، وتم الإطاحة بحكومتها، وطمس بنيتها التحتية، وشعبها يقتل بأعداد لم يتم جدولتها بدقة لحد الآن.  

الاسماء مألوفة- الفلوجة، الرمادي، ومحافظة الأنبار. وكذلك عدم رغبة المؤسسات السياسية والعسكرية التي تعنى بالشؤون الخارجية في التعامل بشكل مباشر مع حقيقة أن جرائم خطيرة إرتكبت ولم يتم فعل أي شيء لمصالحة الولايات المتحدة مع العراق- لم يصدر اي اعتذار رسمي، ولم تجر محاسبة صناع القرار ولا دفع أي تعويضات للشعب العراقي.

النفي الأساسي هذا ينساب بشكل مباشر بوسط السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. على الرغم من أن الحرب على العراق، تحمل بنطاق واسع الكثير من التعجرف وتعتبر "خطأ ستراتيجيا" في الولايات المتحدة، في حين أن النظرة تختلف كثيرا حول العالم وفي المنطقة. عقب الصدمة والرعب، تحول الرأي العام العالمي على الفور تقريبا ضد الولايات المتحدة. الأهم من ذلك فإن مشروع بيو للأبحاث حول المواقف العالمية وجد في العام 2012- في ذات عام "صباح في بلاد ما بين النهرين"- أن متوسط تصنيف الأفضلية من بين دول رئيسية في المنطقة، كان بنسبة 21% للولايات المتحدة وجاءت الصين بنسبة 45%. ولم يشمل المسح الدول الأكثر تضررا من الحرب- العراق، إيران، سوريا. وإن نسبة التصنيف هذه تعكس إلى حد ما نظرة إسرائيل الإيجابية من الولايات المتحدة وجاءت عند 83%؟ تلتها لبنان بنسبة 47%. 

وبالعودة إلى الولايات المتحدة، فإن وسائل الإعلام القصيرة النظر المعتمدة على الغير بنحو موثوق تشجع على نشر الرفض بين الأمريكيين. منذ أن أغلقت السي أن أن "بهدوء" مكتبها في بغداد العام الماضي، كان من الصعب الحصول على الأنباء الواردة من البلاد المتحللة بشكل مطرد، أو حتى كما يعاني العراق من هجمة التفجيرات اليومية والهجمات التي جعلت من العام 2013 السنة الأكثر دموية منذ العام 2007. والأمر الذي يحسب ربما لها، هو أن السي أن أن كانت المحطة التلفزيونية الأخيرة القائمة، ولكن رحيلها اكمل الانسحاب الكلي لوسائل الإعلام الأمريكية التي بدأت، ربما من قبيل المصادفة، بعد فترة وجيزة عقب فوز أوباما بالبيت الأبيض.  

بعد توليه منصبه، استبعد أوباما فكرة مساءلة إدارة بوش الثانية أو، بالتبعية، لأولئك الذين هم داخل حزبه الذين- يميلون إلى هيلاري كلينتون المرشحة الاستباقية الرئيسة للعام 2016- وساعدوا وشجعوا على مخططاتها الكبرى في الكونغرس. وعلى سبيل الطرافة، أعلن بسرعة أنه يريد من إدارته "النظر إلى الأمام، بدلا من النظر إلى الوراء."

إن عبارة "لا تنظر إلى الوراء" كانت تمثل ضربة كبيرة للإدارات المقبلة. حصلنا على موسيقى الكاريوك والتجاوز المتفائل بدلا من الحقيقة والعواقب. لقد غنى بيل كلينتون أغنية أثناء دخوله للبيت الأبيض. وإن إدارته سمحت للفضيحة التي كانت طي النسيان لزمن طويل وهي "العراق غيت"، بالتلاشي ببساطة وإن المؤثرين في إدارة بوش الأب صرفوا من دون اي اهتمام يذكر مثل المعصم المضروب، بسبب التسليح غير المشروع لـ... إنتظر لأجل.. صدام حسين.

إنه لأمر مضحك كيف أن جميع الطرق تؤدي إلى العراق. وأقل هزلا منه هو كم مرة يكون مسرح الجريمة مشتملا على المشتبه بهم المعتادين.

دخول القاعدة. حسنا، ليس تماما. على الرغم من أن وسائل الإعلام كانت تصرخ بالعناوين الرئيسة المنذرة بالخطر قائلة إن "القاعدة قد حصلت على الفلوجة والرمادي، وإن نظرة فاحصة تكشف أن "القاعدة" هي في الواقع "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، الجماعة "المرتبطة بالقاعدة" (أيا كان معناه). ويفضل محررو "التايم" أن يطلقوا عليه "أمتياز من تنظيم القاعدة".

والإمتياز؟ مثله مثل مصطلحات "المرتبط" و"التابع"، إنها علامات تجارية في متناول اليد من دون اي دليل ملموس على وجود صلة مباشرة بتنظيم القاعدة سيء الصيت التابع لأسامة بن لادن. هل هناك مقرات فعلية في مكان ما تصدر رخص الإمتيازات بالقتل باسم الله؟ هل يستطيع اي شخص لديه صفحة على تويتر أو راية سوداء أن يدعي لقب القاعدة؟ ألم تفتح ركلة الولايات المتحدة الباب لحرب أهلية إقليمية في المقام الأول؟

ولربما أن رغبة المتمردين في جميع أنحاء المنطقة باعتماد اسم "القاعدة" ما هو إلا انعكاس و ردة فعل للسياسة العسكرية الأمريكية الخرقاء أكثر من كونه دليل على "انبعاث" تنظيم أسامة بن لادن. لكن تلك الفروق الدقيقة ضاعت في وسائل إعلام تفضل التركيز على الألم والكرب الذي أصاب المحاربين القدامى في الجيش الأمريكي، الذين كما ذكرت صحيفة يو اس أي تو دي، أنهم "يشعرون بلدغة" فقدان الفلوجة والرمادي لصالح القاعدة. هناك القليل من الإهتمام، إن وجد، بالعراقيين الذين يتعرضون للدغات مرارا والذين إضطروا للعيش في مغامرة امريكا الكبرى، محتملين الجحيم الطائفي الذي أطلقته والتداعيات الكيمياوية والإشعاعية الخطيرة التي لا هوادة منها والتي تسببت بتسمم أراضيهم وأجسادهم.

إن ذلك يجري عوضا عن التركيز على مأزق الناس الذين تم استهدافهم عن طريق الخطأ والذين قتلوا عبثا، أو على الاتجاه السائد لوسائل الإعلام الأمريكية التي تنظر عبثا  إلى مرهم يزيد من الآلام العالقة لإولئك الذين أرسلوا في دوامة ساعدت وسائل الإعلام بنفسها في صنعها بالمقام الأول.

الآن تقوم الولايات المتحدة بإرسال الصواريخ والطائرات المسيّرة لمساعدة العراق في قتاله ضد الحاصلين على الإمتياز وضد الجهاديين المجاورين له. ومن المفارقة أن الكونغرس الأمريكي تحدث كثيرا حول وضع شروط على المساعدات العسكرية للحكومة العراقية "غير الجديرة بالثقة" وأبدى المواقف حول إرسال طائرات مروحية من نوع أباتشي. لكن الولايات المتحدة سوف لن ترسل إعتذارا أو الشيء الوحيد الذي من الممكن أن يحدث فرقا- وهي التعويضات. نعم التعويضات. مثل بقية الحروب الخاطئة الأخرى. الحرب على العراق تتطلب إجراء محاسبة كاملة. استنادا إلى السوابق التي حدثت خلال حروب القرن العشرين- مثل التعويضات عن غزو العراق غير الشرعي للكويت- عشرات المليارات من الدولارات من المقرر ان يدفعها الشعب العراقي "للوفيات والإصابات والضرر أو فقدان الممتلكات و المطالبات التجارية والمطالبات بتعويض الضرر الذي أصاب البيئة".

إن الأمر في الواقع لا يختلف عن شخص ما أدين خطأ بجريمة، وقضى سنوات في السجن وبعدها تم إخلاء ساحته من الجريمة عقب تبرئته بأدلة الحمض النووي (دي أن أي). على الرغم من أن هذا الشيء يحدث بانتظام يعتريه الإزعاج، إلا أنه يعد تذكيرا بأن لا وقت متأخرا أبدا للعدالة أن تتحقق. وقد جرت العادة على أن يتم مكافأة الطرف المتضرر بمبلغ سخي من المال- المبلغ الذي يراه مناسبا في محاولة منه لإعادة بناء حياته التي حطمت جراء خطأ.

أليست هذه قصة العراق؟

بطبيعة الحال، فإن هذا السرد لا يتلاءم مع مايراه المؤرخون "الجدد" مثل انتوني بلنكن. عاكسا صدى جورج دبليو بوش في هذا الأمر، اقترح بلنكن أن "الحكمة من الذهاب إلى الحرب في العراق" ستكون مثار نقاش لسنوات وأنه لمن الأفضل تركه للمؤرخين". ومن حسن حظ بلنكن ومؤسسة السياسة الخارجية التي يمثلها، أن الأمريكيين على دراية بالتاريخ بنفس قدر درايتهم بالجغرافيا.

وكما ظهر من كارثة بنغازي، فإن الأمريكيين مايزالون لا يعرفون الكثير عن الجغرافيا. ففي آيار من العام 2013، استطاع فقط 58% من الذين شملهم الإستطلاع أن يقدّروا ان بنغازي في ليبيا- المكان الذي يشهد صراعا طائفيا ضاريا آخر ما يزال منطلقا بسبب السياسة الأمريكية. ولكن حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الحقيقة والعواقب جراء الهرولة الأمريكية العالمية ذات النزعة العسكرية، فيمكن للأمريكيين ان يكتشفوا وجود الرفض في كل خريطة الشرق الأوسط. وكما يقول المثل، إنه ليس مجرد نهر في مصر.