لقاء خاطف مع العراق ! ..

رأيت رجلا ضعيفا و منهكا ومريضا ......و
بوجه متعب و ملامح واهنة و مرهقة ومغبرة ، وبثياب مرقعة ورثة ، جالسا على كومة من قمامة في ركن منزو وشبه معتم ، و قد اعطني مشهد هيئته المزرية انطباع كونه قد يكون مشردا وقد تخلى عنه ذويه العقوقون والجاحدون أو غدر به زمن لعين ..
فاقتربتُ منه محييا وحاولت أن أضع في راحة يده بعض النقود ،غير أنه سحب يده محتجا ورافضا وهو يسألني بازدراء :
ــ أنت عراقي أليس كذلك ؟ . روح .. روح ! ..ابتعد عني !.. يكفيني شركم و فضائحكم وهمجيتكم أنتم العراقيون ..
دُهشتُ للوهلة الأولى من رد فعله الغاضب والرافض ، مبتعدا عنه بخطوات سريعة ، فكرتُ ماذا به ليكون محتدا إلى هذا الحد ؟.. فهذا التصرف ليس معهودا و لا من عادة و طبع متشرد بائس ، ينتظر متوسلا عطف و إحسان الناس ..
غير إنني عندما تذكرتُ الأمر ، وأحسست بشعاع ذلك الوقار و الرصانة و الهيبة الذي يشع من حضوره و كيانه .. فشعرتُ و كأن ذلك الشعاع يخفي أمجادا غابرة و عظيمة لرجل ربما كان عظيما فعلا ذات يوم ! ، غير أن دهرا لعينا قد أنز ل به من أعلى قمة مشعة إلى أسفل هاوية مظلمة !..
فرجعتُ على أعقابي فورا ، غير إنه خاف مني وأنزوى منكمشا ومتوسلا بأن لا أوذيه أو أقتله ..
فسألته مستغربا لماذا يعتقد بأنني سأقتله ؟!.
فرد بأن اعتقاده هذا نابع من كوني عراقي ، و أن العراقيين قد أصبحوا منذ فترة مهووسين بأعمال القتل والهمجية ..
ثم أضاف بنبرة أسف وأسى :
ــ آه ! ..كم أخجل من نفسي وأنا أرى أبنائي العراقيين كيف وصلوا إلى هذا الدرك الأسفل المظلم من الحضيض ، وأضحوا أضحوكة ومسخرة أمام العالم ، بعدما كانوا منارة مشعة للعلم والمعرفة في الأزمان الغابرة والسحيقة جدا !..
فزدتُ حيرة وحب استطلاع أكثر إلحاحا ، بينما هو زاد غموضا ، ولكن أكثر هيبة ووقارا فسألته بنفاد صبر واهتياج :
ــ ولكن قل لنا بحق الرب من أنتم ؟..
غير أنه بدوره سألني ممتعضا من سؤالي :
ــ هل حقا لا تعرفني ؟ .. أنا العراق !.. أنظر إليََّ جيدا ماذا فعلتم بيَّ !..
و أردف بعد صمت قصير : ـــ " ومن الطبيعي أن لا تعرفونني بعدما دمرتموني وجعلتموني خرائب وأطلالا ومهزلة ..وفضلتم عليَ الدين والمذهب والحزبيات والعشيرة والقبيلة و الفئوية ..ونسيتموني تماما و بالمرة .. دون أن تتذكروا أو تدركوا بأنني أنا العراق سابق على أديانكم و مذاهبكم وقبائلكم و عشائركم ، بل وعلى كل مقدساتكم ..
فأنا البداية والنهاية !.."
وبينما كنت مصعوقا ومذهولا بلقائي العجيب هذا مع " العراق " أستطرد هو بعد صمت قصير وهو يحك جسده الهزيل و الرث بأصابع متسخة و أظافر مسودة :
ــ وفوق كل هذا ، ثمة مـَـن بينكم يقول : تفففففوا على العراق ! .. بينما العكس هو الصحيح ! : أي تفففففوا عليكم أنتم أبنائي الجاحدين !!.. فأنا أعطيتكم كل شيء : من أرض خصبة وأنهر كبيرة و حضارة عريقة وثروات طبيعة كثيرة ووفيرة وغزيرة تعيش أقواما و شعوبا كثيرة ..بينما أنتم أبنائي الجدد ماذا اعطيتموني ؟.. لا شيء .. غير الدمار والخراب والانحطاط !...فتففففوا عليكم من الآن ، حتى يوم القيامة !..
آه لقد أسُقط في يدي !.. فماذا أقول له أمام هذه الحقائق العنيدة والدامغة ..
فسألته حائرا ومرتبكا :
ــ يا لخزينا و عارنا !.. فهل أصبحنا سيئين إلى هذا الحد ونحن لا ندرك ذلك ؟! وماذا عن الحل والخلاص ..
ــ تسألني عن الحل والخلاص ..؟ أنتم يا أبنائي الجاحدين والعقوقين لا حلا ولا خلاصا عندكم أو فيكم ــ لكونكم لا تجدون غير النزاع و الصراع و أعمال العنف و الهمجية ــ فلا إلا في مجيء موجات تسونامي جبارة و كاسحة لينظفني منكم ومن أدرانكم ومن أوساخكم ودمويتكم ومن همجيتكم المسـتأصلة !..
كنتُ لا زلتُ منذهلا ومندهشا من نقمة العراق ومن يأسه المطلف منا نحن أبنائه الجاحدين ..
ولكن هل كنتُ أحلم ؟..
أم حقيقة رأيت العراق على هيئة رجل متشرد ؟ ..أو إنها مجرد رؤيا عابرة وخاطفة ؟!..
فهذا ما لم أستطع معرفته وتبيانه حتى الآن ..