الأرجح أن خطأ ما من نوعٍ ما، أو سوء تقدير ناجماً عن نقص في المعلومات، هو ما جعل مجلة "The lancet" الطبية البريطانية الشهيرة تصنّف العراق واحداً من أكثر بلدان العالم كسلاً، محتلاً المركز السابع في قائمة المجلة. أمضيتُ أكثر من ثلاثين سنة خارج البلاد منفياً، منذ 1980، عشتُ اثناءها وعملتُ في ست دول، هي لبنان وقبرص وسوريا وبريطانيا والكويت ودولة الإمارات. لم يحصل أبداً انني سمعت من رؤسائي او زملائي في العمل أو غيرهم كلاماً يضع العراقيين في خانة الكسالى والخمولين أو المتنصلين عن المسؤولية .. العكس صحيح، فقد كان العراقيون في الغالب موضع تقدير واحترام وإشادة بحيويتهم ونشاطهم وإتقانهم عملهم. والواقع ان العلماء والاكاديميين والمهندسين والأطباء والإعلاميين العراقيين كانت لهم بصمة واضحة في مواقع عملهم في تلك البلدان وغيرها. العشرات من المستشفيات العامة والخاصة والمراكز الصحية البريطانية التي راجعتها وأفراد عائلتي كان من المعتاد أن نجد فيها أطباء اختصاصيين ورؤساء أقسام عراقيين. لابدّ ان جدية العراقيين هي إحدى الأسرار الكبيرة وراء نشوء حضارات عظيمة في وادي الرافدين وأرض السواد. والعراق الحديث كان في عقد السبعينيات من القرن الماضي على أعتاب أن يصبح نمراً آسيوياً يحتل المكانة التي لكوريا الجنوبية وماليزيا والهند الآن، لولا صدام حسين الذي دمّر كلّ شيء بحروبه ضد الكرد والشيوعيين وايران والكويت. ولماذا نذهب بعيداً، فها هم العراقيون يجترحون مأثرة كبيرة على صعيد الهمّة والنشاط .. انهم يواصلون الحياة برغم ان كل ما يحيط بهم مناهض للحياة، من جرائم الإرهابيين في حقهم على مدار الساعة الى إهمال دولتهم لهم على نحو منقطع النظير. أعظم دليل على عدم صحة ما جاء في تقرير المجلة البريطانية الرصينة ان في العراق طبقة سياسية حاكمة لا شبيه لها في العالم كله لجهة حيويتها ونشاطها. من علامات هذه الحيوية وهذا النشاط انها تنفق في العام الواحد ما يزيد عن 120 مليار دولار .. ليس مهماً كيف وعلام يُنفق هذا المبلغ المهول .. المهم انه يُنفق، فإنفاقه يحتاج الى جهود كبيرة للغاية وعمل على مدار أربع وعشرين ساعة في اليوم .. صحيح انه لا يُنفق على بناء المساكن والمستشفيات والمدارس والجامعات ومحطات الكهرباء وتصفية المياه ومشاريع الري والزراعة والصناعة والمجاري والطرق والجسور وتحسين الحصة التموينية، لكنه يُنفق في النهاية .. صحيح انه يُنهب نهباً، لكنّ الفاسدين الذين ينهبون يعملون في النهاية أيضاً.. انهم يصلون الليل بالنهار تفكيراً وعملاً من أجل نهب عشرات المليارات التي كانت ستُستثمر في بناء المساكن والمستشفياتت والمدارس و.. و.. و... الخ، أي انهم نشيطون وجادون وحيويون ومخلصون لمهنتهم القذرة، وانهم متقنون عملهم بدليل انهم، في الغالب، لا يتركون دليلاً على فسادهم وينسلّون منها بسهولة انسلال "الشعرة من العجين" .. عبقرية .. أليس كذلك؟ حيوية.. أليس كذلك؟ نشاط.. أليس كذلك؟ أفكر الان بان أزور مقر المجلة البريطانية، عندما أكون في لندن المرة القادمة، لأقدّم لإدارتها هذه الحقائق كيما تضعنا في تقرير العام المقبل في أسفل قائمة الدول الكسولة.. ما رأيكم؟
|