نحنُ والقبور والبخور ! |
الموضوعُ " هنا " ليس بمقالٍ صحفي , وليس بتحقيقٍ صحفي , ولا عمودٍ صحفي, ولا حتى بحديثٍ صحفي .! بل ليسَ لأيٍّ من أفرعِ الصحافة كافّه , فالفحوى هنا اوسعُ وأوسعْ , واكبر سعةٍ من الحدود الجغرافية والتأريخية لكلتا الأمّتين العربية والأسلامية .! ( لطفا : صَلّوا على محمّد وآل محمّد ) عند سفرتي السابقه لأداءِ مناسك العُمره , وتحديدا خلالَ زيارتي للمسجد النبوي, حيث بيت وقبر الرسول "ص" , فوجِئتُ ايّما مفاجأة , وإندهشتُ ايّما إندهاش بوجودِ " حديثٍ نبويٍّ " مكتوب ومُعلّق في مكانٍ بارز , ولمْ اكن قد سمعته من قبل , استغربتُ ذلك " رغم اني لا ادّعي حفظَ كلّ احاديثِ الرسول "ص" , بل قد اكونُ اقلّ مَنْ يحفظ هذهنّ الأحاديثِ للأسف , والحديثُ هذا بدا لي غريباً بعضَ الشيء او اكثرَ من ذلك , فأضطررتُ لسؤال بعض الزوار او المعتمرين العراقيين القريبين على مكاني المزدحم , ساءلتهم وإستعلمتهم اذا ما لديهم معرفةً مسبقه بهذا الحديث الشريف , لكنهم جميعا اجابوا بالنفي القاطع والبتّار , وكانت علائم الإستغراب تكادُ تغدو مجسّمةً على قسَماتِهم وملامحهم ... إنه " حديثٌ لا اظنّهُ متداولٌ او معروفٌ في العراق , وتسببَّ لأن تتفاعل كلّ عناصرَ الأنتلجينسيا والحِجى والمشاعر والسيكولوجيا " عندي " بتفاعلاتٍ تصل الى درجةِ الفوران وتحديدا في المنبر الأرضي الذي تقلُّ مساحته عن قدمٍ مربّع حيثُ كان كان النبي محمّد "ص" يؤمّ الصلاة ويلقي خطاباته ووصاياه , لقد جرّتني جرّاً تلكنَّ اللحظات الساخنة الى نحو اكثرَ من اربعة عشر قرناً من التأريخ الهجري لأتذكّر وصيّةً اوصى بها الخليفة عمر بن الخطّاب " وهي ليست موضوع الحديث الذي نتطرّق اليه " , إذ اوصى الولاة الذين عيّنهم لأدارة البلدان التي تمّ فتحها وإنضمّت الى حدود الدولة الأسلامية التي تشكّلت في زمنه , حيث ابلغهم بنشر آيات القرآن الكريم وشرحها , لكنه اوصى بعدم نشر احاديث الرسول " ص " .! فوجئ الولاة والحكّام الجددّ بكلام الخليفة , فردّ عليهم بقوله : "" إنّ الكلام و نقل الأحداث هنا في الجزيرة العربية تتغيّر وتتبدّل عند تداولها من شخصٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر , فكيف ستغدو اذا وصلت الى امكنةٍ بعيدة بعد كلّ هذا الوقت "" . وبالعودة الى موضوع البحث , فأنَّ نصَّ الحديث المقصود للنبي محمد هو : > كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور , ولكن زوروها كي تتذكّروا الآخرة < , إنَّ اوّلَ ما لفتَ نظري وبأستدارةٍ حادّة , انّها المرّة الأولى التي يغيّر فيها الرسول كلامه ويتراجع عمّا قاله وذلك من اجلِ مصلحة المسلمين على المدى البعيد , ومعنى ذلك كما يتّضح أنَّ زيارة القبور محظورة وأنَّ لا فائدةَ للمسلم فيها , إنما ارتآى النبي بعد ذلك أنَّ مثل هذه الزيارة تُشعِر المرء بالرهبةِ والخوف منَ الموت والآخرة وبالتالي فأنها تدفعه لتجنّب المعاصي ومواكبة ما أنزله الله تعالى في كتابه الحكيم , وإنّ ما يتحدّثُ به النبيّ ليسَ عبثاً : " والنجم إذا هوى , ما ضلَّ صاحبكم وما غوى , وما ينطقُ عن الهوى , إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى - سورة النجم \ آية 3 " تأمّلتُ تأمّلاتٍ عميقة وبعيدة المدى , كيف اننا جميعاً مابرحنا نزور قبورَ المتوفّين من اهلنا واقاربنا في الأعيادِ وبغيرِ الأعيادِ , وهناك نذرف الدموع ونوقد الشموع ونشعل البخور , والبعضُ منّا يُغسل القبور ويُعطّرها بماء الورد , نقومُ بكلّ هذا الذي لا يُرضي الرسول - ص - , ثمَّ اذا كنّا معذورين بعدم إطّلاعنا على هذا الحديث النبوي , فهل سنتوّقف عن هذه الإجراءات او الطقوس " اذا ما صحّتْ تسميتها بطقوس " كلّما زرنا موتانا في المقابر .!؟ اشكُّ في ذلك جداً , فأننا اسرى العواطف والتقاليد " على الأقل " , والغريب أننا ندرك " علميّاً " أنَّ - الميّت - لا يشعر ولا يحس بما نقوم به وما نقدّمه له حين وقوفنا او جلوسنا عندَ القبر , ولكنّ البعض الكثير منّا ايضا يُؤمن انّ السيد - الميّت - يسمعنا ويستشعرنا في عويلنا وبكائنا لاسيّما عند الدفن والتشييع , ولعلّ هؤلاء معذورون جرّاء تصديقهم خرافاتٍ متراكمه من الجدّات والأجداد وغيرهم من كبار السن منذ عقودٍ طوالٍ من الزمن " ومن الطريفِ الأشارة هنا , أنّ بعض الأشخاص المقيمين والعاملين في المقابر يروّجون لهكذا اقاويل وحكايات بل واكثر من ذلك , ولقد سمعتُ شخصيا فيما مضى من اولئك انّهم سمعوا أنينا يخرج من بعض القبور , كما هنالك قبورٌ تخرج منها اصوات غريبه ..! " , والى ذلك فأنّ زيارة القبور تتّخذُ لها منحىً آخراً خارج الإطار الأسلامي , فالأخوة من قومِ عيسى وفي مختلف الأرجاء يضعون الزهور فوق القبور بدلاً من إيقاد البخور .! , ثمَ تطوّر الأمر - سياسياً - في العصر الحديث , وفي جميع الديانات بزيارة قبر الجندي المجهول إسمهُ ورتبتهُ العسكرية , وذلك تخليدا له للدفاع عن بلده , وهكذا تزداد الأهمية بأمر المقابر الى ان تصل الى زيارة قبور الرؤساء والقادة الراحلين إنما بالزهور بلا بخور . . كان المرحوم " آنشتاين " ذات مرّة في مختبره منهمكاً في تجاربه العلمية , فدخل عليه أحد افراد عائلته وابلغه بوفاة والدته بالسكته القلبية , توقّف آنشتاين عن عمله لنحوِ دقيقه , ثمّ عاد لإكمال تجاربه , فسأله قريبه لماذا لا يهرع لتشييع جنازة والدته وتأبينها , فردّ عليه بالقول : " لا داعٍ فكيف ستعرف بحضوري او عدمه .؟ انها تحوّلت الى العدم " ... سادتي : - قد اكونُ تسببتُ بمسحةِ كآبةٍ جرّاءَ تكراري مفرداتٍ كالقبور والميّتْ ومشتقّاتها ومرادفاتها , ولذلك سأختتم الموضوع ببيتِ شِعرٍ طريف لأحد الشعراء المغمورين " واُقسِمْ انّهُ ليسَ مأخوذاً من قصائدي " - > حفّارُ قبورٍ ينتظِرُ .... لو كُلَّ العالمْ ينتحِرُ |