استعماران

في مناقشة مع مثقفين من شعراءالجيل الثاني في ابداع الشعر الحر وصحفي كبير، تحدث منتقداً الاستعمار البريطاني الذي لم يبنِ سوى قاعات الصفيح (البنكلات) لإدارة الدولة في العراق، مقارناً بنكلات “المحررين” الانجليز، وبين الفرنسيين في شمال افريقيا ولبنان.
ويبدو لي أن شاعرنا لم يشخص الفرق بين سلطات الإحتلال البريطاني، بدءاً من البصرة بعد أيام من اعلان الحرب على العثمانيين في تشرين 1914، ودخول بغداد نهاية 1917، وبين عبور الفرنسيين البحر المتوسط إلى الجزائر والمغرب وتونس والعديد من الدول الأفريقية. فالبريطانيون كانوا في العراق قوة احتلال، بالأخص بعد استبعاد الحكم البريطاني المباشر للعراق، ومن قبلها التخلي عن ضم البصرة إلى الحكم البريطاني من الهند.
ومع هذا فان الخطط البريطانية لتغطية نفقات المستشارين وبقية العاملين بموجب صك الانتداب مع الحكومة الملكية العراقية، ونفقات بناء الجيش وقوات الأمن، استدعت إقامة العديد من مشاريع الري وتطوير الخبرات الزراعية، بجانب الخبرات المحلية في إدارة الدولة.
أما بالنسبة للفرنسيين في شمال افريقيا، بالأخص في الجزائر، وبعدها المغرب وتونس، فان الاستعمارالفرنسي في الجزائر كان استيطانياً إلى ابعد الحدود، فالكثير مما كان في فرنسا اقاموه في الجزائر: مزارع كروم النبيذ والمحاصيل التي تحتاجها السوق الفرنسية وجوارها الأوربية، بجانب الصناعة الترويحية.
أما بالنسبة للبنان فهناك رابطة الدين، بجانب الوشائج المتطورة قبل وصول القوات الفرنسية إلى جونيه في الحرب العالمية الأولى، والعلاقة الخاصة للكنيسة المارونية بفرنسا.
وما يحيرني هذه الأيام هو غياب اية مؤسسات تعنى براحة المواطن، فمع الأسف حين تدخل مجمع الأمن العامة القديم لمراجعة مديرية التحقيقات الجنائية، تقطع مسافة طويلة من الوحل، فيما الذي لا خلاف عليه ان هذا المبنى “الضخم” شيده النظام الشمولي ضمن خططه للسيطرة على كل صغيرة وكبيرة في البلاد. والحالة نفسها تتكرر عند مراجعة مراكز المرور لتسجيل السيارات وتجديد اجازات قيادتها. ولا أظن حال مراجعي دوائر الدولة الأخرى احسن حالاً.
نحن نلوم البريطانيين لأنهم بنوا قاعات الصفيح، ونلوم البريطانيين لتمهيدهم لإقامة النظام الملكي تلبية لعلاقات والتزامات مع فيصل ابن الشريف حسين. لكن يظل السؤال الكبير: لماذا تُقام مؤسسات الدولة حالياً بكل ما تستلزمه، لكن ما يتعلق بها بمراجعة المواطنين في منتهى السوء ويستدعي عبوره إلى برمائيات شتاء وحماية من ضربة الشمس صيفاً؟!؟ اليس المسؤولون يستوطنون العراق مثلنا؟!!
وينبغي للشهادة القول أن الاستثناء الوحيد هو مدخل مراجعي وزارة العدل في مقرها القريب من الزوراء، ودائرة أملاك الدولة في شارع الرشيد.