الفاتيكان

عصفت الرياح , ولاح البرق في السماء , دوى صوت الرعد في الافاق , فهاج البحر وماج , وتلاطمت الامواج , ولفظ امرا شنيعا , كان يخفيه بين اسراره , فصرخ صرخة تردد صداها في عنان السماء .

خرج مرعوبا , مرعبا , خائفا , مخيفا , قبيحا , ذميما , يتدفق كما يتدفق الماء , يتموج كتموج مياه البحار , يحمل بين شمائله جملة من التناقضات , رغم انه بعين واحدة , يرى كل شيء , لديه اذان لا تسمع الا ما يعجبه , وجهه قبيح الا ان اكثر الناس تراه جميلا , هيئته وحش كاسر , لكنهم يرونه حملا وديعا , يبيت الخبيث من النوايا , فيعتقدون انه حسن السريرة , ويظنون انه جاء هاديا , بينما جاء ضالا , مضلا , جاء ليدق ناقوس الخطر , ويحارب ناموس البشر .

يبحث عن انصاره واعوانه , وكل من كان في انتظاره , يرمقهم بطرفه , يراهم كثرة كاثرة , مشتتين , متفرقين , منتشرين في ارجاء المعمورة , يوحدهم , يجمع شملهم , يعيد تنظيمهم , يكلمهم ولا يكلمونه , يخطب فيهم , ولا يخاطبونه , يرشدهم ولا يرشدونه , يدلهم , ولا يدلونه , هو بحاجتهم , وهم يحتاجونه , حوارهم صامت , غامض , يبادلهم اسرارا مكتومة , وعلوما مخفية , لا ترقى ان تكون , ولا يمكن ان تصون , هذا الجمع الغريب , فصرخ فيهم صرخة تقشعر منها الابدان , وتشمئز منها النفوس ( آن آواني , حان دوري ! ) .

*********************

هناك في غرفة كبيرة , يطل البابا بطلعته المهيبة , بروحه العذبة , بسيمائه النبيلة , بابتسامته الخفيفة , بأحاسيسه المرهفة , بمشاعره الدفاقة , يسير بترو , بسحر وقار شعره ناصع البياض , يجلس بهدوء على ذلك الكرسي , يرمق الحاضرين بنظرته الحنونة , نظرة اب رؤوف .

يفتح باب الغرفة , بعد ان طرق ستة طرقات , يدخل صبي حسن المنظر , يحمل بيده صينية احتوت على ستة ارغفة خبز , وستة كؤس , وستة علب ماء , ما ان وقع نظر البابا عليه , حتى اختفت تلك الابتسامة الجميلة , وتغير لونه , فبدا شاحبا , فتح عينيه , حتى كادتا تخرجا من محجريهما , كأنه رأى امرا مهولا , ارتعشت كلتا يديه الناعمتين , استند على الكرسي وحاول النهوض , بالكاد استطاع الوقوف على قدميه , اخفى ما دار في خلده , ينظر الى الصبي تارة , والحاضرين تارة اخرى , فطلب منهم الانصراف جميعا , حالما خرج الجميع , دفن وجهه بكلتا يديه , ثم اسرع نحو المصلى , جلس هناك , وشرع بتلاوة الصلاة , بصوت حزين , حنون , يتصبب العرق على جبينه , مكونا قنوات تجري على خديه , فسمع صوتا يناديه , يتردد صداه بين جدران تلك الغرفة , التفت البابا باحثا عن المتكلم , او مصدر الصوت , فلم يرى شيئا , ولم يسمع سوى :

( ليس الوقت وقت صلاة , بل حان وقت العمل ) !