في الثامن من شهر شباط/فبراير من العام 2014 تمر على العراق أبشع كارثة عاشها الشعب العراق، إذ كانت البداية لسلسلة من الكوارث والفواجع والانقلابات وسياسات الاستبداد والعنصرية والعسكرة والحروب والمجاعات وهدر الكرامات والموت بأعداد لا حصر لها من بنات وأبناء العراق، فاجعة انقلاب شباط الدموي 1963 الذي قاده البعثيون والقوميون اليمينيون الشوفينيون الذين سقطوا في مستنقع الخيانة الوطنية ومعاداة مصالح الشعب والحركة الوطنية والديمقراطية العراقية. مناسبة هذه الذكرى الحزينة والمأساوية التي تذكرنا بالطيبين والمناضلين من الناس من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية الديمقراطية ومن القوميات كافة الذين ننحني إجلالاً واحتراماً لهاماتهم الشريفة ومقاماتهم المرفوعة والشامخة دوماً في سماء العراق، أنشر هنا أجزاء من كتابي عن الجمهورية الثانية، جهورية البعث الدموية، جمهورية السلف المجرم للخلف الذي عاد ثانية إلى الحكم في انقلاب تموز 17-30 1968، وكان أكثر إجراماً وبشاعة واستبداداً. وإذا كان الانقلاب الأول مأساة، فأن الانقلاب الثاني كان مأساة ومهزلة في آن، والذي انتهى في العام 2003 بحرب الخليج الثالثة واحتلال العراق لتبدأ معها مأساة ومهزلة جديدة حيث سلّم الحكم إلى القوى الإسلامية السياسية الطائفية التي تتصارع وتتناطح في ما بينها على النفوذ والمال والجاه وبعيداً عن مصالح الشعب والوطن، فأدخلت العراق في نفق مظلم وظالم في آن واحد، في جحيم لا يطاق. سيزول هذا الجحيم قطعاً كما زالت النظم الجائرة التي سبقته، والسؤال هو متى وكيف؟ ك.ح.
المبحث الأول: القوى التي شاركت في انقلاب شباط/فبراير 1963
في الثامن من شباط/فبراير 1963 نجح الانقلابيون الجدد في الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم الوطنية واختطفوا السلطة. واقترن هذا الانقلاب بسيل من دماء قادة ثورة 14 تموز 1958 ومن مناصري الجمهورية الأولى من قادة وأعضاء القوى الوطنية العراقية. ولم تكن حركة الانقلاب الناجحة مفاجئة لأغلب القوى السياسية العراقية, إذ كانت تتوقع ذلك في كل لحظة, حتى الفريق الركن عبد الكريم قاسم كان يعرف أن حركة انقلابية تتجمع خيوطها لتطيح بنظام حكمه, وكان يريد إلقاء القبض على المتآمرين حين بدء تنفيذ المؤامرة. ذكر الأستاذ الراحل محمد حديد أن حديثاً جرى بينه وبين الزعيم قاسم منبهاً إياه إلى وجود مؤامرات تحاك ضده, فكان جوابه أنه يعرف ذلك وينتظر بدء تحركهم. فقد جاء في كتاب مذكراتي لمحمد حديد ما يلي بهذا الصدد: "كان هناك أعضاء من "الحزب الوطني التقدمي" يطالبون باتخاذ موقف أكثر صراحة للمطالبة بتغيير الأوضاع, بل إن بعضهم قدّم لي مذكرة مشتركة في هذا الشأن. وكان بعضهم ينقل إليّ تخوفه من وجود تآمر على النظام بسبب النشاط المتزايد لحزب البعث العربي الاشتراكي والحركات القومية, إضافة إلى التهجم المتواصل على النظام العراقي من جانب الصحف العربية المناوئة للنظام, وكذلك إذاعة "صوت العرب". وكنت أنقل هذه المشاعر إلى عبد الكريم قاسم الذي كان يرد على ذلك بالقول إنه مسيطر على الوضع, ولا يستطيع أحد تهديد النظام. وفي الرد على وجود اتخاذ إجراءات احتياطية, كان يشير إلى أنه يجب انتظار شروعهم في الحركة ليقبض عليهم متلبسين بالتآمر". كان هذا في النصف الثاني من العام 1962. ويعلق الأستاذ محمد حديد على هذا الموقف فيقول: "وكان ذلك زيادة في الاعتداد بالنفس والقدرة على السيطرة على جميع الأوضاع, إذ ظهر في ما بعد أن كثيراً ممن كان عبد الكريم قاسم يظن أنه يعتمد على ولائهم, كانوا إما مشتركين في التآمر, وإما تخلوا عن ولائهم ولم يقوموا بعمل جدي للدفاع عن النظام" . كان عبد الكريم قاسم يعتقد جازماً بأن الشعب كفيل بإسقاط المحاولة وإفشال الواقفين وراء العملية, إضافة إلى تصوره الخاطئ بولاء كل من كان قريباً منه وأبدى شكلياً جانب الولاء له, رغم تلقيه التهديد الواضح الذي جاء على لسان مندوب شركات النفط الأجنبية عضو الوفد المفاوض وممثل شركة ستاندارد أويل أو نيوجرسي حيث جرى الحديث التالي بين الأخير وعبد الكريم قاسم: (مقطع من نص الحديث المتبادل) "الزعيم : هل تريدوننا أن نكون مثل الحكومات السابقة ننفذ ما تريدونه؟ فيشر : كلا, وإنما نريد أن تفحصوا وجهة نظرنا. الزعيم : لقد فحصنا وجهة نظركم. فيشر : ولكنكم لا تعترفون بأن ما نقوله صحيحاً. الزعيم : أعتقد إننا جئنا معكم لدرجة كبيرة ومع ذلك فإننا لا نريد أن نؤثر على موقف الشركات, ولكننا يجب أن لا نخسر لأننا أصحاب الحق في هذا البلد. ليس لدينا شيء الآن ونعتبر المفاوضات منقطعة بسبب تعنت الشركات في وجهات نظرها وعدم موافقتها على إعطاء حق العراق ولا يمكن لنا أن نصبر على ضياع حق العراق مدة طويلة. أنكم تريدون كل الأمور في صالحكم, وعلى كل حال أتمنى لكم الخير. فيشر : شكراً وأرجو كل الخير لسيادتكم وللشعب العراقي. الزعيم : هذه آباركم باستطاعتكم استغلالها كما تريدون وأني آسف لأن أقول لكم بأننا سنأخذ بقية الأراضي بموجب تشريعاتنا الجاهزة حتى لا يكون ذلك بمباغتة لكم وأشكركم على حضوركم. فيشر : نشكركم على إخباركم بذلك وسننتظر ماذا ستكون النتائج. الزعيم : أية نتائج؟ فيشر : أقصد أن علينا أن نتخذ الخطوات اللازمة لحماية مصالحنا. الزعيم : نحمي مصالحنا ومصالحكم كذلك" . التقط عبد الكريم قاسم التهديد بوضوح حين استفسر منه: أية نتائج؟, ولكن فيشر استدرك ليدفع بالموضوع إلى وجهة أخرى, ولكن بقى التهديد واضحاً وصريحاً. إذ كانت النتائج التي يقصدها فيشر واضحة وهي تشديد التآمر ضد حكم عبد الكريم قاسم. وكان عبد الكريم قاسم مخطئاً باعتماده المطلق على أجهزته الأمنية وعلى قدرة الشعب في التصدي للمؤامرة وهو الذي انتزع من الجماهير كل أسلحتها النضالية والوقوف إلى جانبه, كما عمل كل شيء من أجل إثارة كل المناهضين له للتوحد والعمل المشترك ضد وجوده في السلطة وضد الجمهورية الأولى, والتي حاولنا الإشارة إليها في الكتاب الخامس من أجزاء هذا الكتاب العشرة. يتحمل عبد الكريم قاسم الجزء الأساسي من مسؤولية تدهور الوضع السياسي في العراق وانعدام الحياة البرلمانية الديمقراطية القائمة على أساس دستور ديمقراطي ومدني حديث. كتب الأستاذ الراحل إبراهيم كبة بشأن دور حكومة قاسم في سقوط الجمهورية الأولى مؤكداً أن حكم قاسم مَّر بمرحلتين, المرحلة التي تميزت في السنة الأولى من الثورة, ثم الفترة الثانية التي شهدت الآنتكاسة حيث كان الفكر الرجعي يحاول طمسها, فهو يؤكد ما يلي: "..., تبذل كل المحاولات لطمس الجوهر الحقيقي للانحراف القاسمي في سنواته الأخيرة المتمثل في الدكتاتورية الفردية ومعاداة الديمقراطية وتمزيق الوحدة الوطنية وإطلاق العنان لليمين البرجوازي والقوى الوسطية والبيروقراطية المتفسخة, والمساومة المكشوفة مع الطبقات الرجعية وأصحاب المصالح المركزة والفئات الآنتهازية, وهو الأمر الذي لم يؤد فقط إلى تجميد الثورة بل تمكين قوى الردة تنفيذ مخططها لإسقاط الحكم القاسمي لا لتطوير جوانبه الإيجابية والعودة لمنطلقات ثورة تموز الأصلية, بل للإجهاز على الجوانب المذكورة في عملية واضحة لتصفية جميع إنجازات الثورة والعودة بالعراق لعهد ما قبل تموز. إن انقلابي شباط وتشرين, كما أثبتت الأحداث, كانا (تتويجاً) للانحراف القاسمي في جوهره الدكتاتوري الفردي المعادي للديمقراطية, مع تطوير هذا الآنحراف خطوات واسعة للأمام, وتحويله إلى السياسة الرسمية للدولة" . لا شك في أن القوى والأحزاب السياسية الوطنية كافة تتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع في العراق حينذاك ابتداءً من شد الصراع غير العقلاني على السلطة ومروراً بالموقع المتميز فيها والعداء المستحكم الذي نما وتطور بين القوى السياسية المختلفة, وانتهاءً بعجزها عن فهم طبيعة القضية الكُردية ومهماتها وضرورات التجاوب مع مصالح القوميات المختلفة في العراق. كما أنها عجزت عن فهم حقيقة النشاط الكبير الذي كانت تمارسه القوى الخارجية المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم بسبب سياسته الوطنية إزاء شركات النفط الأجنبية, وكذلك الموقف غير السليم الذي أعلنه قاسم من الكويت, إضافة إلى موقف دول حلف بغداد التي وجدت في النظام سبباً لاهتزاز نظامها الأمني والعسكري في المنطقة. وقد حصدت جميع القوى السياسية الوطنية الثمار المرة للسياسات التي مورست من قبلها في أعقاب الثورة مباشرة. إلا أن القوى السياسية المباشرة, التي بدأت ببث الفرقة ورفع الشعارات المفرقة للصف الوطني والمحفزة على الصراع والعدوانية السياسية والروح الانقلابية منذ الأيام الأولى للثورة وعمدت إلى وضع العصي في عجلة التطور السياسي بهدف توفير مستلزمات الاستيلاء المنفرد على السلطة, كانت بالأساس قوى البعث وبعض الحركات القومية العربية. لقد كان الانقلاب الذي هيأت له ونفذته دمويا بكل معنى الكلمة, إذ مارس الانقلابيون مختلف الأساليب الفاشية لتصفية أقطاب الحكم الوطني والخصوم السياسيين, وخاصة قتل الشيوعيين والديمقراطيين التقدميين وجمهرة من أنصار قاسم. وإذا كانت المواقف السياسية للقوى القومية قد بدأت منذ فترة مبكرة للإطاحة بقاسم, فأن تحالفها الفعلي نشأ منذ العام 1961 حيث تشكلت الجبهة القومية من ثلاثة أحزاب قومية هي حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاستقلال وحركة القوميين العرب. ولم يسجل التحالف القومي من حيث المبدأ سوى هدف رئيسي وأساسي واحد هو الإطاحة بنظام الحكم وانتزاع السلطة من عبد الكريم قاسم. لقد نشا التحالف المناهض لحكومة عبد الكريم قاسم على قاعدتين, قاعدة طبقية اجتماعية وأخرى فكرية وسياسية تستند إلى إيديولوجية قومية شوفينية وخلفية دينية متزمتة. ولم ينفرد حزب البعث العربي الاشتراكي بالتحضير لانقلاب شباط وتنفيذه, بل شاركت معه مجموعة من القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية الآتية التي كان يهمها الخلاص العاجل من حكومة عبد الكريم قاسم, رغم وجود فوارق واضحة في الجهد الذي بذل من جانب مختلف القوى لتنفيذ المخطط الانقلابي. ويمكن بلورة القوى التي شاركت في هذا التحالف من الناحية الطبقية الاجتماعية فيما يلي: * فئات البرجوازية التجارية الكبيرة والبرجوازية العقارية وأوساط غير قليلة من البرجوازية البيروقراطية التي كانت ثورة تموز 1958 قد وجهت ضربات سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية إلى مواقعها ومصالحها في البلاد وأجهزت على نظام حكمها الملكي الإقطاعي. * فئات الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية التي أصابت الثورة مصالحها الاقتصادية في الصميم فصادرت مساحات واسعة جداً من تلك الأراضي التي كانت في حوزتها وأضعفت نفوذها وتأثيرها السياسي والاجتماعي, علماً بأن هذه الفئات قد استطاعت منذ عام 1961 استرداد الكثير من مصالحها المفقودة بإجراءات وقرارات صدرت عن حكومة قاسم نفسه. * بعض أوساط البرجوازية المتوسطة, وخاصة التجارية منها, التي أرعبتها حركة الجماهير وتصاعد نضال العمال والفلاحين وتنامي نفوذ الشيوعيين في أوساط الشعب وتأثيره على الشارع والمبالغة بقوته. وعلى المتتبع أن لا ينسى بأن بعض فئات البرجوازية العراقية كانت على صلة متينة بالريف والأرض, وكانت تمتلك مساحات غير قليلة وتحصل على جزء غير قليل من الريع المتحقق في الزراعة, وبالتالي لم تكن منسجمة مع قانون الإصلاح الزراعي, رغم أن القانون كان إصلاحياً برجوازياً يخدم مصالح البرجوازية المتوسطة والصناعية وتنشيط عملية تراكم رأس المال والتنمية الزراعية الحديثة. * أوساط قليلة من البرجوازية الصغيرة العاملة في القوات المسلحة ودوائر الدولة ومن حملة الفكر القومي. وجدير بالإشارة إلى أن جمهرة غير قليلة من الضباط القوميين العرب قد وجدت نفسها بعيدة عن مواقع المسؤولية في الثورة, وأن الثورة قد سارت, حسب رأيهم في طريق مناهض للوحدة العربية, وبالتالي بدأوا يمارسون مختلف النشاطات لمناهضة حكومة قاسم وإسقاطها سواء بصورة علنية أم سرية وبالتعاون مع بقية القوى المناهضة لحكومة قاسم. لقد أصيبت هذه القوى بخيبة أمل كما يشير إلى ذلك بصواب الأستاذ الراحل حنا بطاطو. * القوى القومية الكُردية التي اصطدمت بسياسات قاسم إزاء المسألة الكُردية ولم يستجب لمطالبها العادلة في الاعتراف بوجود شعب كُردي له حقوق وواجبات, كما له الحق في تقرير مصيره بنفسه, وبالتالي اصطفت مع القوى المعادية لحكومة قاسم والراغبة في إسقاطه والخلاص من نظامه السياسي.
وخلال الفترة التي سبقت الثورة وما بعدها لم تتوفر مستلزمات نشوء أحزاب سياسية يمكنها أن تعبر بشكل واضح عن مصالح جميع تلك الطبقات والفئات الاجتماعية بسبب غياب الحياة الحزبية السليمة والحرية الضرورية, لهذا تجمع أكثر المعادين لحكومة قاسم في أحزاب سياسية قومية أو دينية أو تجمهرت حولها وأيدت مشروعها السياسي. وعلى صعيد القوى السياسية فقد كان التحالف المباشر وغير المباشر بين القوى المناهضة لحكومة قاسم قد ضم إليه القوى والأحزاب التالية:
1. الجماعات القومية: + حزب البعث العربي الاشتراكي. + الحزب القومي الناصري. + حركة القوميين العرب التي كانت قد انسحبت من الجبهة القومية, إلا إنها حافظت على علاقاتها ونشاطها السياسي المناهض لحكم عبد الكريم قاسم. + الرابطة القومية. + الحزب العربي الاشتراكي. + التجمع القومي العراقي في القاهرة.
2. جماعات الإسلام السياسي المناهضة لعبد الكريم قاسم: + جماعة الأخوان المسلمين (الحزب الإسلامي). + حزب التحرير الإسلامي. + حزب الدعوة الإسلامية الشيعي. 3. الحزب الديمقراطي الكُردستاني.
ولم تقدم هذه الأحزاب في فترة حكم قاسم على طلب إجازة أحزابها بل مارست العمل على أساس الدمج بين السرية والعلنية ( في ما عدا الحزب الديمقراطي الكُردستاني الذي حورب ابتداءً من أوائل عام 1961). وقد وجدت بعض الأوساط العشائرية والقوى التي كانت تعمل مع حزب الإتحاد الدستوري وحزب الأمة الاشتراكي في فترة الحكم الملكي مجالا رحبا للتعاون مع تلك الأحزاب ومدها بالدعم المادي. وعلى الصعيد الخارجي يمكن القول بأن تحالفاً واسعاً قد نشأ يمكن بلورة أهم مكوناته على النحو التالي: + تحالف سياسي عربي قائم على أساس العداء الشديد لحكم عبد الكريم قاسم وسياساته في المنطقة, ضم إليه عملياً وعبر الجامعة العربية الدول العربية التي كانت تقودها قوى قومية, وتلك التي كانت لا تخفي تحالفها المباشر مع الدول الاستعمارية وسياساتها في المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن القوى القومية والبعثية وبعض القوى الدينية في الأقطار العربية والقوى اليمينية المناهضة لحكومة عبد الكريم قاسم وللإجراءات التي اتخذتها في السياسة الاقتصادية والاجتماعية قد ساهمت في دعم قوى الانقلاب. + الدول غير العربية في المنطقة وبشكل خاص إيران وتركيا وباكستان باعتبارها كانت أعضاء في حلف بغداد (السنتو), إضافة إلى إسرائيل التي كانت ترى في سياسة قاسم تحدياً لها وإسناداً متنوعاً للقوى الفلسطينية. + الدول التي تضررت مصالحها النفطية وشركاتها في العراق, وبشكل خاص كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الاحتكارات النفطية من بين أكثر القوى الدولية شراسة في عدائها لحكومة قاسم ورغبتها في التخلص من هذا الحكم الوطني.
تجمعت جميع هذه القوى والأحزاب والدول تحت شعار واحد أساسي: " يا أعداء عبد الكريم قاسم, ويا أعداء الشيوعية اتحدوا". إلا أن ترجمة هذا الشعار كانت تعني بلا شك الإطاحة بالحكم الوطني وإقامة البديل القومي الشوفيني, أي إنها كانت تخوض صراعا حول السلطة. ومن الجدير بالإشارة إلى أن قوتين أساسيتين من بين القوى القومية هما اللتان لعبتا دورا حاسما في الإطاحة بحكم قاسم, وأعني بهما حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه المدني والعسكري, والقوى القومية العربية الناصرية بجناحيها العسكري والمدني. لقد وفر هذا التحالف السياسي الواسع عدة فوائد للانقلابيين, وهي: ** ضمان قاعدة واسعة نسبياً من المناهضين المستعدين للمشاركة في عملية الآنقضاض على النظام. ** ضمان انسياب المعلومات الاستخباراتية الضرورية حول تحركات النظام واختيار اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة. ** ضمان دعم سياسي وإعلامي دوليين واسعين يساعدان على تعبئة تأييد سريع وفعال ضد حكومة قاسم والقوى المساندة لها من جهة, ودعم أهداف الانقلابيين والدعاية الخارجية لهم من جهة أخرى. ** تأمين الموارد المالية لتعبئة القوى الضرورية لتأييد الحركة الانقلابية. عند العودة إلى تلك الفترة سيجد الباحث نفسه مجبراً على تسجيل جملة من الحقائق المهمة التي سبقت الانقلاب وكانت ضمن عمليات التهيئة له, والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية: 1. القيام بسلسلة واسعة من عمليات الاغتيال الفردي لعدد كبير من الشيوعيين والديمقراطيين في مناطق مختلفة من العراق بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وزعزعة الثقة بقدرة النظام على حفظ الأمن وسلامة المواطنات والمواطنين. 2. شن حملة دعائية هادفة ومركزة ضد الشيوعيين بدعوى تمزيقهم القرآن أو الإساءة للإسلاميين والدين أو بتهمة الإلحاد والخروج عن الآداب العامة للإسلام...الخ! وبعد نجاح الانقلاب أقتسم البعثيون والقوميون السلطة بصورة غير متكافئة إذ هيمن البعثيون على المراكز الأساسية في الدولة وفي توجيه دفة الحكم, في حين كان نصيب القوميين محدوداً وغير مؤثر في الأحداث السياسية اليومية. وكان هذا الواقع أحد أوجه الخلاف الذي نشب هادئا بين القوتين وغطى عليه الصراع الداخلي الذي تفجر بين أجنحة البعث الحاكم, الذي لم يكن في كل الأحوال صراعا حول المبادئ بل حول السلطة ومراكز القوة فيها. وقد أضعف هذا الصراع قوى البعثيين ومهد السبيل أمام القوى القومية للتعاون في ما بينها والتخلص من حليف الأمس, من البعثيين في تشرين الثاني من نفس العام (1963). وأعلن عبد السلام محمد عارف نفسه رئيسا للجمهورية. كما أن هذه القوى قد أبعدت عملياً بقية القوى التي ساندت البعث والقوى القومية عن مراكز السلطة, وبالتالي أسست لصراع جديد معها. وعلى صعيد آخر فقد تخلت القوى التي قادت الانقلاب عن الإيفاء بوعودها إلى الحركة الكُردية المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني في كُردستان العراق, وبالتالي تفجرت الحرب من جديد, وكانت أحد العوامل الأكثر قوة في إضعاف هذا النظام أيضاً فقاد مع بقية العوامل إلى دفع النظام إلى حتفه بسرعة. وعند البحث في الفترة الواقعة بين 1963-1968 يصعب التفريق بين الفترة الأولى الواقعة بين شباط/فبراير 1963 -18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 التي انتهت بسقوط البعث وتولي القوميين السلطة في الفترة بين 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1964 وسقوطهم في 17 تموز/يوليو 1968, وتولي البعث السلطة مرة أخرى للسلطة, من حيث جوهر السياسة الاقتصادية والاجتماعية أو الموقف من الحياة الديمقراطية أو من العلاقات العربية, في ما عدا ميل البعثيين إلى الحكم البعثي في سوريا, الذي كان قد أعلن قبل ذاك الآنفصال عن الوحدة مع مصر, وبين ميل القوميين العرب إلى سياسة جمال عبد الناصر في مصر. وفي العام 1964 عمدت الحكومة الجديدة إلى عقد سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والتبادل التجاري والتعاون الفني مع العديد من الأقطار العربية وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة والكويت, إضافة إلى بعض الاتفاقيات مع بعض الدول الاشتراكية وغيرها. وتمثل في قيادة الحكم الجديد اتجاهان بارزان في الحركة القومية العربية اتجاه ناصري يسعى إلى تحقيق المزيد من التقارب والتماثل بين اتجاهات التطور في البلدين واتجاه يميل إلى إبعاد العراق عن الوحدة مع مصر وتطوير علاقات التعاون معها وفسح المجال أمام البرجوازية التجارية والعقارية للعمل على نطاق واسع. ومن الأسئلة التي تستوجب الإجابة في هذا الكتاب نذكر ما يلي: لِمَ هذا الانقلاب, أي ما هي أهدافه؟ وهل تحققت فعلاً في ضوء ما كان يجري الإعلان عنه؟ ولِمَ هذا العنف والقسوة اللذان مورسا بشراسة منقطعة النظير ضد المعارضين؟ سنحاول هنا أن نشير إلى الأهداف التي أعلن عنها والتي حمل البعثيون والقوميون وغيرهم شعاراتها أولاً, ثم نحاول الإجابة في نهاية الكتاب وعبر صفحات الكتاب ذاته عن مدى تطابق تلك الأهداف مع النتائج التي توصل إليها الانقلابيون. تحدث البعثيون والقوميون في صحافتهم وأدبياتهم ودعاياتهم في الداخل والخارج بأنهم يلاحظون انحراف النظام القاسمي عن الأهداف التي يسعون إليها, والتي يمكن تلخيصها, بناءً على أدبيات هذه القوى فيما يلي: 1 . أن النظام القاسمي نظام غير قومي عربي, بل مناهض للقومية العربية. وهو مناهض للوحدة العربية, ومنها الوحدة مع سوريا ومصر. 2 . وبهذا المعنى, فهو نظام شعوبي يخدم مصالح غير عربية ويرفض التعاون مع جمال عبد الناصر أو السير تحت قيادته. 3 . وأن النظام القاسمي خاضع للحزب الشيوعي العراقي وتابع لسياساته, وبالتالي فهو يسير في ركاب المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي. 4 . وأن عبد الكريم قاسم مستبد بأمره لا يحترم الحرية والديمقراطية. 5 . ولهذا فهو يكافح التيارات البعثية والقومية والإسلامية في العراق ويمارس اضطهاد هذه القوى. واستناداً إلى كل ذلك رفعت شعارات تدعو إلى الوحدة العربية وإلى الالتزام بالقومية العربية وضد الشيوعية وضد الاستبداد والدكتاتورية, كما دعت إلى "الحياد الإيجابي" بعيداً عن مفهومه الناقص وبعيداً عن الاتحاد السوفييتي, حين رفعت شعار لا غربية ولا شرقية. كتب أحد قياديي حركة القوميين العرب الراحل الدكتور باسل الكبيسي بهذا الصدد يقول: "وخلاصة القول أن "حركة القوميين العرب" انتهجت, خلال هذه المرحلة, البرنامج الذي وضعته لجنتها التنفيذية في عام 1959. ويتضمن هذا البرنامج ما يلي: التركيز على قضية الوحدة العربية, الصراع ضد الشيوعيين المحليين والقوى الرجعية في الوطن العربي, التأكيد على سياسة الحياد الإيجابي. دعم الثورة الجزائرية, وأخيراً وليس آخراً دعم الجمهورية العربية المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي" . أما القوى الإسلامية السياسية فكان همها يتركز في ثلاث نقاط, هي: 1 . أن النظام القاسمي غير إسلامي. 2 . وهو نظام شيوعي ملحد يتعاون مع الشيوعية المحلية والدولية. 3 . وأن النظام يرفض الالتزام بالشريعة, بل أصدر قوانين ضد الشريعة الإسلامية, ومنها قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة. واتفقت على هذه الوجهة في محاربة نظام الحكم الجمهوري الأول القوى والأحزاب الإسلامية السنية والشيعية, رغم التباين والصراع في ما بينها على امتداد فترات طويلة. والآن أصبح النظام القاسمي عدوهما المشترك. أما فئة كبار الملاكين وجمهرة صغيرة من الإقطاعيين فكانت تتفق مع الأفكار والسياسات المعادية لقاسم التي تطرحها هذه القوى, كما تضيف إليها بأن النظام القاسمي قد سلبها أرضها حين طبق قانون الإصلاح الزراعي وسلبها سلطتها حين أسقط الملكية, وسلبها نفوذها الاجتماعي والسياسي وحرمها من امتيازاتها الكبيرة التي تجسدت في قانون العشائر الذي كان ساري المفعول في ظل النظام الملكي وألغي من قبل حكومة قاسم بسبب انطلاق الفلاحين الفقراء والمعدمين يناضلون في سبيل تطبيق قانون الإصلاح الزراعي. أما القوى القومية الكُردية فقد كان النظام القاسمي قد رفض تحقيق جملة من المطالب التي طرحتها وأصرت عليها ورفض عبد الكريم قاسم الاستجابة لها, رغم عدالتها, بغض النظر عن الطريقة أو الأسلوب أو الوقت الذي طُرحت فيه تلك المطالب. وكانت أبرز تلك المطالب تتلخص في ثلاثة, وهي: 1 . اعتبار القسم العربي من العراق جزءاً من الأمة العربية, وليس كل العراق وأن العراق يعيش فيه شعبان رئيسيان هما الشعب العربي والشعب الكُردي, إضافة إلى وجود أقليات قومية. 2 . منح الشعب الكُردي الحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية. 3 . تحقيق جملة من المطالب الأخرى الخاصة بحقوق الشعب الكُردي كاللغة الكُردية وإزالة آثار التمييز ضد الكُرد ...الخ. أما بصدد الدول العربية والدول المجاورة فقد كانت الإشكالية تتلخص في النقاط التالية: 1 . رفض أسلوب الثورة الذي مارسه الضباط الأحرار والذي يمكن أن ينتقل إلى البلدان الأخرى. ولم تلتق مع هذا الموقف كل من سوريا ومصر. 2 . أن نظام عبد الكريم قاسم يوفر أرضية صالحة لنمو الشيوعية الإلحادية التي يمكن أن تنتشر وتصل إلى مناطق أخرى, وهي بالضد من مبادئ الإسلام وسياسات الدول الجارية حينذاك. 3 . كما أنه يمارس سياسة إصدار القوانين المخلة باتجاهات تلك الدول الفكرية والسياسية والموقف من بعض الإجراءات مثل قانون الإصلاح الزراعي أو قانون الأحوال الشخصية أو قانون العمل والعمال ...الخ. 4 . أنه يشكل موقعاً مناهضاً للتحالف مع الدول الغربية وتعزيز علاقاتها المتبادلة, ويقيم أفضل العلاقات المشبوهة مع البلدان الاشتراكية, وخاصة مع الاتحاد السوفييتي. وأكبر دليل على ذلك هو خروج العراق من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني وعقده اتفاقيات اقتصادية وثقافية مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا وغيرها. 5 . وأنه يشكل نموذجاً خطراً في التعامل مع شركات النفط الاحتكارية التي يمكن أن تؤثر سلباً على العلاقات الودية بين حكام تلك البلدان وشركات النفط الأجنبية. 6 . وأنه يسقط الاحتكار الذي فرضته الدول الرأسمالية المتقدمة على أسواق الدول العربية ودول المنطقة عموماً وعلى تجارتها الخارجية واستثمار مواردها الأولية. ومثل هذا النهج الذي يتبعه قاسم ويرسي دعائم سياسة خارجية جديدة متحررة ومستقلة لا يرضي حكام الدول العربية ويضعف تحالفها التبعي ويقلص من حماية الدول الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية لتلك النظم العربية من شعوبها الغاضبة. من هنا يتبين للمتتبع وجود نقاط التقاء كثيرة بين جميع هذه القوى, مع وجود بعض الاختلافات في ما بين البعض الآخر. إذ يمكن الإشارة إلى بعض نقاط الخلاف مع القوى الكُردية أو مع مصر وسوريا, ولكنها فقدت قيمتها العملية المؤثرة بسبب العداء المشترك الذي استحكم ضد حكومة قاسم وضرورة إزاحته من السلطة.
الثاني العوامل الكامنة وراء نجاح انقلاب شباط/فبراير 1963
شكل حزب البعث العربي الاشتراكي الهيكل الرئيسي والعقل المدبر والمنفذ الفعلي لانقلاب الثامن من شباط/فبراير 1963, في حين لعبت القوى القومية الأخرى, وخاصة في الجيش, الدور المساند والداعم له مثل عبد السلام محمد عارف وعبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وعارف عبد الرزاق وعبد الهادي الراوي, إضافة إلى مشاركة بعض المؤمنين المتدينين من الضباط المسلمين المتشددين من أمثال عبد الغني الراوي وغيره, في عملية التنفيذ وليس في التحضير للانقلاب , وكانت المجموعة الأخيرة ترتبط بالجناح القومي الناصري من الحركة السياسية العراقية, في حين كان العقيد الركن عبد الغني الراوي يرتبط بشكل أقوى وأوضح بالتيار السياسي والديني للملكة العربية السعودية, وإن كان يعمل تحت خيمة التيار القومي الناصري بجناحه اليميني. لقد بني هذا التعاون السياسي في فترة الانقلاب في ضوء التحالف القديم الذي نشأ في العام 1959 بين القوى القومية بمختلف أجنحتها والقوى البعثية والذي أطلق عليه في حينها بـ "التجمع القومي" رغم انفضاض عقده بعد سقوط الوحدة المصرية السورية وانسحاب سوريا من تلك الوحدة الشكلية في أعقاب انقلاب 1962, وكذلك التحالف السياسي المباشر المناهض لحكم عبد الكريم قاسم بين قوى البعث والقوى الكُردية. أما التحالف بين القوى القومية والقوى الإسلامية السياسية, شيعية كانت أم سنية, فقد كان تحالفاً عملياً تحقق على الأرض وفي الموقف العام من حكم قاسم وفي الشارع, رغم الفجوة التي كانت قائمة بين فكر وممارسات حزب البعث وبين قوى الإسلام السياسي الشيعية. وإذا كانت قوى الإسلام السياسي الشيعية قلقة من موقفها المناهض لقاسم بسبب أن غالبية أتباع المذهب الشيعي كان تميل إلى جانب عبد الكريم قاسم, في حين أن نسبة غير قليلة من أتباع المذهب السني ضد قاسم. كانت القيادة الفعلية للانقلاب محصورة بيد النواة الصلبة المكونة لقيادة حزب البعث والتي تمثلت قبل انقلاب شباط بالثلاثي على صالح السعدي, أمين سر القيادة القطرية حينذاك, وحازم جواد وطالب شبيب, وكلاهما كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث, وكلهم من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم حينذاك عن الثلاثين عاماً, إضافة إلى كل من أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف ومنذر الوندواي, وهم من أعضاء المكتب العسكري لحزب البعث, وكذلك قيادة فرع بغداد, التي كان حازم جواد مسؤولاً عنها. وكانت هذه المجموعة الصغيرة تدير نشاط القيادة القطرية والمكتب العسكري لحزب البعث في آن واحد وتخطط للانقلاب. وكان المكتب العسكري لحزب البعث مسؤولاً عن تنظيم وتأمين العلاقة مع الضباط المرتبطين بحزب البعث أو المساندين لحركة الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم وتوزيع المهمات على المشاركين في الانقلاب. لم يكن للانقلابيين عدداً كبيراً من الضباط المساندين لحركتهم بقدر ما كان للشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين من الضباط. ومع ذلك نجح الانقلاب البعثي وأطيح بحكم قاسم واستولى البعثيون على السلطة السياسية. والسؤال المشروع الذي يفرض نفسه في هذا المجال هو: لِمَ انتصر الانقلابيون وفشل قاسم في الاحتفاظ بالحكم؟ لا شك في أن الكتاب السادس من هذه المجلدات العشرة قد حاول الإجابة عن هذا السؤال بصورة جزئية, في حين يمكن في هذا الكتاب البحث بشكل أوسع في الموضوع. ويبدو لي مفيداً بلورة الإجابة عن هذا السؤال بنقاط محددة لإدراك عمق المشكلات التي اقترنت بعملية الإطاحة بحكم الفريق الركن عبد الكريم قاسم. ويفترض أن نتابع حركة القوى المتصارعة حينذاك, أي كيف كانت تعمل القوى التي تساند وتقف بمستويات مختلفة إلى جانب قاسم, وكيف كانت تعمل القوى المضادة لحكم عبد الكريم قاسم؟ وبصدد الجزء الأول من هذا السؤال يمكن بلورة الجواب بالنقاط التالية: * هيمنت فردية قاسم على علاقته مع القوى الأخرى وسيطرة القناعة لديه بأنه الحاكم المعبود من الشعب والقادر على قهر كل المتآمرين, وهي صيحة اقرب ما تكون إلى "دار السيد مأمونة" التي أطلقها نوري السعيد حينذاك وقبل إسقاط نظامه. لم تساعد السمة الفردية والغرور على الاستعانة بالآخرين لمساعدته في التعرف على الواقع السياسي في البلاد. ورغم معرفته باحتمال حصول انقلاب واعتقال بعض البعثيين, إلا أنه لم يستطع إدراك عمق الأزمة التي كان يعيشها نظامه والعراق كله في آن وسخر بالقوى المناهضة له وبإمكانياته, ولهذا لم يتخذ وينفذ مجموعة كبيرة من الإجراءات التي كانت ضرورية والتي كان في مقدورها وضع حد أو إعاقة وقوع الانقلاب أو إفشاله عند وقوعه. والجدير بالإشارة أن عبد الكريم قاسم لم يأمر أو يمارس التعذيب ضد المعتقلين من البعثيين قبل الانقلاب بأيام, للحصول على أسرار الانقلاب, وهو أمر يحسب لصالح قائد ثورة تموز. لقد كان قاسم فرداً مستبداً برأيه في تعامله مع الأحداث والواقع العراقي ومع آراء الآخرين الذين نصحوه وحذروه من النشاط التآمري ضده, ولكنه لم يقم نظاماً دكتاتورياً مطلقاً في البلاد. * الحرب المجنونة التي مارسها عبد الكريم قاسم ضد الشعب الكُردي والتي استنزفت الكثير من قواه الداخلية والعسكرية وتسببت في زيادة معارضة بنسبة عالية من السكان في الموقف من الحرب, إضافة إلى مطالبة القوى السياسية العراقية من قاسم في إيقاف القتل وحل المسألة الكُردية بالطرق السلمية وعبر التفاوض المباشر. * كما أن سياسته غير العقلانية إزاء الكويت ودعوته إلى إلحاقها بالعراق وادعاء عائديتها للعراق وسعيه الفعلي لاستعادتها بالطرق العسكرية. * وفي ما عدا عن ذلك فأن الثقة العالية التي كانت لدى قاسم بنفسه أولاً, وبأن الشعب سيدافع عنه في اللحظة المناسبة ثانياً, ورغبته في تجنب أي حرب أهليه ثالثاً, ساهمت كلها في نجاح الانقلابيين في إسقاط حكم عبد الكريم قاسم. إذ أنه حتى اللحظة الأخيرة رفض إعطاء السلاح للمدافعين عنه خشية وقوع حرب أهلية, خاصة وأنه كان يعتقد جازماً بأن المجتمع منقسم على نفسه بين مؤيد للشيوعيين ومعارض للبعث أو العكس وبالتالي فأن الحرب ستكون شرسة والضحايا كبيرة. * ارتفاع مستوى الشك في الحزب الشيوعي العراقي, الذي كان يدعم عبد الكريم قاسم أكثر من أي قوة سياسية أخرى في البلاد, رغم اختلاف الحزب معه في جانبين, في سياسته الفردية ونزوعه إلى الهيمنة وابتعاده الفعلي عن الممارسات الديمقراطية من جهة, وحربه ضد الشعب الكُردي التي كانت تستنزف قوى البلاد من جهة أخرى. ونشأ هذا الشك عن أسباب عدة, وهي: - المعلومات التي بلغت قاسم عن نية بعض الضباط الشيوعيين بتنظيم انقلاب ضده, رغم أنه كان يعرف بأن قيادة الحزب الشيوعي رفضت هذا المقترح, وأنها تسانده ولكن تريد تغيير سياسته. ومع ذلك بقى الشك لديه بالحزب الشيوعي كبيراً. - تكرار قيام قيادة الحزب الشيوعي العراقي إبلاغ عبد الكريم قاسم عن مواعيد كانت قد وصلتها وتشير إلى احتمال تنفيذ عملية انقلاب ضده من جانب البعثيين والقوميين, كما أصدر الحزب الشيوعي العديد من البيانات والتحذيرات من احتمال وقوع انقلاب وشيك, وكان آخرها في 25/1/1963 , أي قبل 13 يوماً من وقوع الانقلاب الناجح. ويبدو أن تلك المواعيد التي لم تكن كاذبة, كانت تلغى من قبل المخططين لها وتؤجل لموعد أخر. فارتفع الشك لدى قاسم بأن الشيوعيين يريدون التشويش على علاقته بالبعث والقوى القومية وأنهم يريدون أثارته ضدهم, حتى بلغ به الأمر دعوة القوميين إلى ترشيح ثلاث شخصيات جديدة لتدخل الوزارة ممثلة عنهم, وتم ذلك عبر محمد صديق شنشل, رغم أن البعثيين رفضوا ذلك. ومع أن قاسم قد اعتقل بعض قادة البعثيين, إلا أنه لم يمس القيادة الفعلية بشكل كامل ليستطيع بذلك شل الحركة ومنع تنفيذ المخطط المرسوم. - وقوف الحزب الشيوعي إلى جانب شعار "الديمقراطية للعراق والسلم لكُردستان" التي أغاظت عبد الكريم قاسم ودفعته إلى ممارسة إجراءات جديدة ضد الحزب الشيوعي وزج المزيد من كوادر وأعضاء الحزب بالسجن وإصدار بعض الأحكام ضدهم. * أدى هذا الشك بالحزب الشيوعي إلى اتخاذ قاسم مجموعة من الإجراءات ضد الشيوعيين, وأهمها: فصل الكثير من الضباط الشيوعيين من القوات العسكرية أو إحالتهم على التقاعد أو نقلهم إلى مراكز بعيدة أو غير فعالة. - الكف عن التحاور معهم أو استشارتهم أو استشارة المقربين منهم إليه. - شن حملة واسعة ضد الشيوعيين من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات قادت إلى ارتفاع مستوى المناهضة الفعلية لعبد الكريم قاسم في القاعدة الحزبية للشيوعيين ولدى الكادر الوسط. * غياب أي شكل من أشكال التعاون الفعلي المنشود بين القوى السياسية العراقية من جهة, وحكومة عبد الكريم قاسم من جهة أخرى, لمواجهة أي محاولة انقلابية محتملة, وغياب الاستعداد الفعلي لمواجهة أي انقلاب محتمل. وكل المؤشرات تؤكد وجود صراعات وخلافات في المعسكر المساند لقاسم بسبب الاختلاف بالمواقف حول سياساته ومواقفه إزاء الديمقراطية والحياة الدستورية والحرب في كُردستان والموقف من الكويت ... الخ. * عدم وجود أسرار في معسكر عبد الكريم قاسم يمكن أن تبقى خافية على الانقلابيين بسبب وجودهم المنتشر في أجهزة الأمن والاستخبارات وفي وزارة الدفاع أيضاً. * وجدير بالإشارة إلى أن عبد الكريم قاسم لم يكن يعتبر القوى البعثية أو القوى القومية من الناصريين وغيرهم عدوة له, بل كان يعتبرها اتجاهاً فكرياً وسياسياً يختلف معه, ولكن يحق له الحياة والعمل في العراق. ولهذا سكت عن النشاطات التي كان يقوم بها حزب البعث وبقية القوى القومية, رغم إدراكه بأنها موجهة ضده. وفي مقابل هذا تمتعت القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم بعدة امتيازات ساعدتها على إسقاط حكم قاسم, نشير إلى أهمها فيما يلي: - الموقف السياسي المشترك لدى القوى البعثية والقومية الناصرية المعارضة لحكم قاسم المصممة على إسقاط النظام, في مقابل التفكك في مواقف القوى المساندة لقاسم. - حرية الحركة الواسعة التي تمتعت بها القوى البعثية والقومية وكل القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم, فهو رغم سياسته الفردية والاستبدادية, تساهل مع القوى المناهضة له التي كانت تريد الآنقضاض عليه وعلى نظامه على أساس مبدأ "عفا الله عما سلف". - حرية العمل في القوات المسلحة لأغلب البعثيين والقوميين الذين استطاعوا بفعل وجود قوى لهم في مواقع المسؤولية تركيز وجودهم العسكري في مناطق حساسة وقريبة من بغداد ومعسكر الرشيد وقادرة على استخدامها لتوجيه الضربة. - القدرة في الوصول إلى أدق المعلومات عن تحركات عبد الكريم قاسم ومجموعة الضباط المؤيدين له والقوى المعارضة للانقلابيين من خلال جهاز الأمن وجهاز المخابرات ووزارة الدفاع. - إشاعة الرعب في صفوف الناس من خلال عمليات الاغتيال ضد الوطنيين أو إشاعة الفوضى بتنظيم الإضرابات الطلابية التي بدأت في 24/12/1962 , أو حول أسعار البنزين قبل ذاك بكثير وما إلى ذلك. - التذمر الشعبي من بعض سياسات قاسم التي أبعدت جمهرة من الناس عن الالتفاف حول نظامه. - التحالف الواسع الداخلي والعربي والإقليمي والدولي الذي تحقق في مناهضة حكم قاسم والسعي لإسقاطه. لقد كانت الأرضية صالحة جداً لتنفيذ الانقلاب, وكانت القدرة على إيقافه وصدّه محدودة جداً, بسبب عدم تعاون قاسم مع القوى المساندة له وغياب الموقف المشترك. تميز الانقلاب الذي وقع في الثامن من شباط/فبراير 1963 بالعنف والدموية وروح الآنتقام والثأر من قادة وقوى ومساندي الحكم الجمهوري الأول. وإذ عجز عبد الكريم قاسم عن الدفاع عن نفسه واحتمى بوزارة الدفاع التي اعتبرها "عريناً" له, فأن القوى السياسية الأخرى, ومنها قوى الحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص, رفضت الاعتراف بهذا الانقلاب والاستسلام للانقلابيين وقررت بناء على قرار قيادة الحزب وسكرتيرها الأول, سلام عادل, مقاومة الانقلاب والسعي لإفشاله, رغم إدراك سلام عادل بأن إمكانية النجاح في المقاومة ضعيفة جداً بعد أن أدرك ومن خلال اتصاله المباشر بقاسم, بأن الأخير غير مستعد لتسليح الجماهير المدافعة عنه وعن الجمهورية الأولى. وقفت إلى جانب الحزب الشيوعي في مقاومة الانقلاب قوى شعبية واسعة في العديد من أحياء بغداد وفي أنحاء أخرى من العراق, كما في البصرة التي تصدت بإخلاص وقوة للانقلابيين, ولكن دون أن تمتلك السلاح والقدرة الفعلية على المقاومة, في ما عدا البعض الذي كان قد اختزن سلاحه الشخصي أو استطاع الحصول عليه من بعض مراكز الشرطة في الكاظمية مثلاً. ليست تفاصيل المقاومة التي نهضت في أنحاء من العراق وفي أحياء كثيرة من بغداد, مثل الكاظمية وحي الأكراد الفيلية أو الكرادة أو المواقع والشوارع القريبة من وزارة الدفاع وباب المعظم وغيرها هي التي تهم الباحث والبحث, إذ كتب عن هذا الموضوع كثيراً, بقدر ما يهم البحث مدى صواب أو خطأ تلك المقاومة, ومدى التحضير لها والتنسيق مع القوى السياسية الأخرى ومع الحكم في ضوء الاختلال في ميزان القوى الذي تحقق بفعل موقف عبد الكريم قاسم الفعلي من موضوع المقاومة وخشيته من اشتعال حرب أهلية. كل الدلائل تشير إلى ثلاث وقائع مهمة, وهي: 1. لم يكن هناك أي تنسيق عملي بين القوى التي كانت تساند عبد الكريم قاسم وبين قاسم نفسه, رغم معرفة الجميع بأن الانقلاب قاب قوسين أو أدنى, وأن قاسم قد نبه إلى ذلك واتخذ بعض الإجراءات, سواء أكان باعتقال بعض البعثيين القياديين, أم بنقل بعض الضباط البعثيين والقوميين ومصادرة بعض الأسلحة التي كانت في مخازن خاصة وضعت لصالح الانقلاب من قبل ضباط بعثيين, كما حصل مع الضابط البعثي خالد مكي الهاشمي. 2. لم تكن خطة الطوارئ التي وضعت من قبل الحزب الشيوعي لمواجهة الانقلاب كفيلة بضمان مقاومة ناجحة للانقلاب, خاصة وأن الحزب كله لم يكن على وفاق في سياسته مع حكومة قاسم. ولهذا تعثر تنفيذ الخطة ابتداءً من قبل المسؤول العسكري للجنة العسكرية للحزب الشيوعي والمسؤول عن تنفيذ الخطة أصلاً. حتى أن المسؤول عن تنفيذ الخطة قائد القوة الجوية العراقية الشيوعي والشخصية المحبوبة في القوات المسلحة العراقية الزعيم الطيار جلال جعفر الأوقاتي لم يبلَّغ بضرورة مغادرته البيت إذ أن من كان عليه إيصال الخبر تعطلت سيارته, ولم يعمد إلى أخذ سيارة أجرة لإيصاله إلى دار السيد الأوقاتي الذي قتل على مقربة من داره وهو بصحبة أحد أبنائه الصغار صبيحة يوم الانقلاب , كما لم تكن هناك خطة بديلة في حالة تعثر أي من مراحل الخطة لأي سبب كان. 3. لم يكن الشعب العراقي موحداً في موقفه من حكم عبد الكريم قاسم, خاصة وأن موقف الغالبية الكُردية كانت ضد حكومة قاسم ومتحالفة مع قوى البعث والقوى القومية لإسقاط حكومته, كما أن جمهرة كبيرة من العرب لم تعد تثق بسياسة قاسم غير الديمقراطية. أما القوى الشعبية التي كانت تريد الدفاع عنه فكانت لا تمتلك القيادة السياسية والعسكرية الموحدة والقادرة على منحها التوجيهات والأسلحة لكسب المعركة ضد الانقلابيين. وعلينا أن نعي مسألة أخرى هي كثرة من الجماهير التي ركضت في مظاهرات انتصار ثورة 14 تموز 1958, يمكن أن تركض وراء كل انقلاب يحصل في البلاد, فهم جزء من المجتمع الهامشي المسحوق الذي كان ينتظر من كل حركة انقلابية الحصول على مكاسب معينة, إذ لا تربطه بالانقلابيين أياً كانوا أي توافق أو تناغم فكري وسياسي بأي حال. وأن هذه الجماهير التي استفادت من الثورة في البداية تعرضت إلى الكثير من المشكلات حيث بدأت الثورة بالتعثر والوضع السياسي بالتراجع. إن الدعوة إلى مقاومة الانقلاب استندت لدي قيادة الحزب الشيوعي العراقي إلى عدد من الركائز المهمة, وهي: 1. القناعة التامة بأن المغامرين الجدد ينفذون سياسة مرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالاستعمار البريطاني والشركات النفطية الدولية والولايات المتحدة الأمريكية, وهي بالتالي تشكل جزءاً من مخطط دولي يستهدف المنطقة بأسرها ويقوم على مناهضة حركة التحرر الوطني العربية وفي المنطقة, إضافة إلى كونه موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية. ولم تكن الحركة الوطنية العراقية مخطئة حين اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بدعم الانقلاب في العراق وأن الانقلابيين جاءوا بقطار أمريكي وفق تصريح علي صالح السعدي في العام 1963, إذ أن السفير الأمريكي الحالي هيل أوضح بتاريخ 19/2/2010 في تصريح واسع له عن أوضاع العراق والآنتخابات قوله: "وأشار بشكل صريح الى انه في الستينيات عندما كانت الولايات المتحدة قلقة جداً من احتمال انتشار الشيوعية إلى العراق، كان البعث يرى باعتباره بديلاً عن الشيوعية، حيث كانت الولايات المتحدة في حقيقة الأمر تفضل البعثية في عملية عام 1968 والتي أدت إلى عودة البعثيين و كانت الولايات المتحدة تفضل ذلك على أن يصبح فيها العراق شيوعياً". 2. والقناعة بأن الانقلاب مناهض لمصالح الشعب وحرية الوطن ولا يخدم قضية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي, بل هو ردة رجعية تدفع بالبلاد إلى الوراء وسقوط في الممارسة الشوفينية والرجعية. وقد جاء فيما بعد في حديث شخصي للملك حسين بن طلال مع محمد حسنين هيكل حول انقلاب البعث في العام 1963 قوله: "تقول لي أن الاستخبارات الأميركية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957. أسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط (فبراير) قد حظي بدعم الاستخبارات الأميريكية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ولكني أعرف الحقيقة. لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأميركية, وعقد أهمها في الكويت. أتعرف أن ... محطة إذاعة سرية تبث إلى العـراق كانت تزود يوم 8 شباط (فبراير) رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم" . 3. وأن التحالف بين الحركة الكُردية وقوى الانقلاب لم يكن سوى هروب الحركة الكُردية إلى أمام من الواقع القائم بأمل الخلاص من حكم عبد الكريم قاسم, ولكن قوى البعث لم تكن مستعدة بأي حال الاستجابة لحقوق الشعب الكُردي, بل كانت تصم الحركة الكردية بـ"أنها حركة استعمارية مشبوهة", كما جاء في جريدة الاشتراكي التي كان يصدرها حزب البعث قبل سقوط النظام بأسابيع قليلة . وفي تشرين الثاني من العام 1962 أصدر حزب البعث بياناً نشر في صحافته تضمن الفقرة التالية بشأن الحركة المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني: "إن الحركة المسلحة في الشمال وموقف عبد الكريم قاسم منها, تفوح منهما رائحة التآمر والتواطؤ مع الاستعمار, فقيادة الحركة المسلحة بماضيها وحاضرها الملطخ بالدماء والمتصف بالاعتداء, ونياتها العدوانية التي أفصحت عنها مراراًُ وتعصبها الأعمى, يجعلها محلاً للريبة والاتهام. وأن موقف تركيا وإيران عضوي (السنتو) من الحركة, ورعايتهما هذه الحركة وتغذيتها بكل ما تحتاج إليه من مؤن وعتاد, يحول هذا الاتهام إلى يقين وإدانة" . وعلينا أن نقدر مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الحركة الكردية بقيادة ملا مصطفى البارزاني في تحالفها مع حزب البعث والقوى القومية لإسقاط الجمهورية الأولى والخلاص من عبد الكريم قاسم للحصول على حقوق الشعب من قوى لا تعترف بوجود للشعب الكردي أساساً. 4. إن القوى البعثية والقومية سوف ترتكب مجازر بشعة بحق قيادة وكوادر وأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية وضد مؤيدي قاسم أيضاً, إضافة إلى المخاطر التي تتهدد الضباط المختلفين معهم, وبالتالي لا بد من المقاومة لتجاوز المحنة المحتملة الأكثر قسوة, في حالة نجاح الانقلاب. 5. وكانت قيادة الحزب الشيوعي تعتقد أيضاً بأن الجماهير ستهب دفاعاً عنى النظام الجمهوري وعن مكاسبها, كما أن قاسماً سيمنح الشعب ثقته ويمده بالسلاح والعتاد لمقاومة الانقلاب والذي لم يتحقق. ومع ذلك فقد تكونت لديَّ القناعة بأن الدعوة للمقاومة جسدت حالة عاطفية لدى سلام عادل وقيادة الحزب, إن كانت قد اتخذت القرار بشكل مشترك, أكثر منها عملية عقلية وعقلانية مدروسة على أرض الواقع. ورغم القناعة المتوفرة أيضاً بأن الانقلابيين حتى لو لم تكن هناك مقاومة مسلحة ضدهم, لقاموا بذات المجازر الدموية التي ارتكبوها ضد حكم عبد الكريم قاسم وضد الناس الذين ساندوه أو حتى الذين اختلفوا معه ورفضوا سياساته. لقد كانت الكراهية والحقد وحب الآنتقام والهيمنة الكاملة على السلطة السياسية في أعلى وأقسى وأسوأ صورها لدى حزب البعث. لقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1963 بياناً علنياً أشار فيه إلى ما يجري في الخفاء لتنفيذ انقلاب بعثي - قومي ضد حكم عبد الكريم قاسم وحذر من العواقب الوخيمة لنجاح مثل هذا الانقلاب. فقد جاء في البيان ما يلي: "هناك معلومات متوفرة تشير إلى أن الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد ولواء المشاة التاسع عشر أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين والمغامرين الذين يأملون بتحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد, وقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض. وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها بعض كبار الجواسيس الأميركيين لبلدنا" . لقد كانت لدى الحزب الشيوعي العراقي معلومات موثوقة بأن حزب البعث والقوى القومية والمتحالفة تستعد لتنفيذ عملية انقلابية ضد نظام الحكم وبلغا قاسم به عبر الكثير ممن كانوا يتصلون به حينذاك, كما أن الأستاذ الراحل محمد حديد هو الآخر قد بلغ عبد الكريم قاسم بوجود مؤامرة تستهدف النظام وشخص عبد الكريم. ولكن قاسماً كان قد فقد الثقة بهؤلاء واعتمد على جواسيس البعث الذين احتلوا مواقع مهمة في أجهزة الأمن العراقية. وبعد الانقلاب أصدر الحزب الشيوعي بياناً نارياً جاء فيه ما يلي: " إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية أيها المواطنون ! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم ! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية والديمقراطية ! قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة يائسة للسيطرة على الحكم, تمهيداً لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية فسيطرت على مرسلات الإذاعة في أبي غريب وهي تحاول أن تثير مذبحة بين أبناء جيشنا الباسل لتنفيذ غرضها السافل الدنيء في السيطرة على الحكم . إن جماهير شعبنا المجاهد حفار قبر المؤامرات , وجماهير جيش 14 تموز حفار قبر الملكية والاستعمار , ينهضان الآن كرجل واحد للدفاع عن استقلال البلاد ولدحر المؤامرة والمتآمرين , أعوان وصنائع الاستعمار والرجعية , والتأهب لرد أية محاولة استعمارية خارجية للتدخل في شؤون البلاد. إلى الشوارع يا جماهير شعبنا الأبي المجاهد , لكنس بلادنا من الخونة المارقين . إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني وعن مكاسب شعبنا . إلى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر وكل محلة ومؤسسة وفي كل قرية. إلى الأمام. إلى تطهير الجيوب الرجعية , وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وأية بقعة من بقاع البلاد. إن الشعب بقيادة القوى الديمقراطية سيلحق العار والهزيمة بهذه المؤامرة السافلة , كما سبق أن سحق بلمحة خاطفة مؤامرة الكيلاني والشواف وغيرها ... إننا نطالب الحكومة بالسلاح. فإلى الأمام , إلى الشوارع , إلى سحق المؤامرة والمتآمرين. بغداد في 8 شباط 1963 الحزب الشيوعي العراقي"
أدى النداء الذي أطلقه الحزب الشيوعي لمقاومة الإرهاب إلى نزول جماهير واسعة من الناس إلى الشوارع في محاولة منها لمواجهة الانقلاب, في وقت كانت لا تمتلك أسلحة تساعدها على مواجهة الانقلابيين. في مقابل هذا عجز عبد الكريم قاسم عن استخدام الإذاعة لبث نداءاته التي كان يريد إيصالها إلى الجمهور والموجهة ضد الانقلابيين وطمأنة الناس بأن هذه الحفنة من الخونة الانقلابيين سينهزمون, إذ كان الانقلابيون قد سيطروا على محطة البث أولاً, ولآن الذين تسلموا البيان لإيصاله إلى دار الإذاعة إما عجزوا عن ذلك أو كانوا متواطئين مع الانقلابيين. تضمن أحد ندائي عبد الكرم قاسم النص التالي: "من الزعيم عبد الكريم قاسم إلى أبناء الشعب الكرام وإلى أبناء الجيش المظفر, إن أذناب الاستعمار وبعض الخونة والغادرون والمفسدون الذين يحركهم الاستعمار لسحق جمهوريتنا, الذين يحاولون بحركات طائشة النيل من جمهوريتنا ولتقويض كيانها. إن الجمهورية العراقية الخالدة وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تسحق وأنها تسحق الاستعمار وتسحق كل عميل خائن, نحن نعمل في سبيل الشعب وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة.وتقوية كيان البلاد. فنحن لا نقهر وأن الله معنا. أبناء الجيش من مختلف الكتائب والأفراد, أيها الجنود البررة مزقوا الخونة اقتلوهم, اسحقوهم إنهم يتآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا هذه الثورة التي حطمت الاستعمار وانطلقت في طريق الحرية والنصر. وإنما النصر من عند الله وأن الله معنا. كونوا أشداء اسقطوا الخونة والغادرين. أبناء الشعب في كل مكان, اسقطوا الخونة والغادرين, والله ينصرنا على الاستعمار وأعوانه وأذنابه" 8/2/1963. لم يتسن لقاسم إيصال نداءاته إلى ضباط الجيش العراقي ولا إلى الشعب, في حين تمكن الحزب الشيوعي العراقي من إيصال بيانه ودعوته لمقاومة الإرهاب إلى أوساط غير قليلة من الجيش والشعب, فهب الشارع البغدادي محاولاً الوصول إلى وزارة الدفاع للمشاركة في الدفاع عن الجمهورية وقاسم في آن واحد, كما تحرك بعض الضباط الشيوعيين ومن مؤيدي قاسم أو الديمقراطيين الرافضين لقوى حزب البعث والقوى القومية, إلا أنهم حوصروا من قبل من كانت بيده المبادرة في احتلال رؤوس الجسور والطرق الخارجية أو مناطق مهمة من بغداد. لقد صمم الانقلابيون على ممارسة جميع أشكال العنف في مواجهة أتباع قاسم ورفاق الحزب الشيوعي العراقي, وخاصة القوى التي أرسلت للسيطرة على وزارة الدفاع, حيث مقر عبد الكريم قاسم. بدأت التحركات الشعبية في الكاظمية والكرادة وحي الأكراد والكريمات وفي مناطق أخرى من الرصافة, إضافة إلى تحركات في مواقع عسكرية. لقد تمت سيطرة الشيوعيين وأتباع قاسم على الكاظمية وخاضوا معارك ناجحة ضد القوات التي وقفت إلى جانب الانقلاب, إلا أن ميزان القوى قد اختل بعد توجيه المزيد من القوات العسكرية ونهوض تعاون بين البعث وجماعة الشيخ الخالصي في الكاظمية حيث ضربت مناطق شعبية بالمدافع وقتل الكثير من الشيوعيين وأصدقاء الحزب في تلك المعارك. كما وقعت معارك في حي الأكراد في محلة باب الشيخ وفي الكريمات والكرخ والكرادة ومناطق أخرى من العراق, إلا أنها كانت دون جدوى. اختلفت التقديرات عن عدد الذين سقطوا في معارك الأيام الثلاثة, حيث قدر زكي خيري عدد القتلى من الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين بحدود 5000 إنسان, في حين قدر آخرون بتراوح العدد بين 12000-15000 إنسان, كما أن تقديرات أخرى ذكرت بأن عدد الشهداء الذين سقطوا في تلك المعارك بلغ بحدود 1500 إنسان, وأكثرهم كان من الشيوعيين والديمقراطيين. كتب زكي خيري يقول: "وبلغ عدد القتلى خلال الأيام الثلاث الأولى من الانقلاب 5000 شخص في المقاومة وفي ملاحقة الشيوعيين من بيت إلى بيت" . أما حنا بطاطو في كتابه "العراق" أو "الطبقات الاجتماعية في العراق" فقد كتب يقول: "وفي تقديرات الشيوعيين أن لا أقل من 5000 "مواطن" قتلوا في القتال الذي جرى من 8 إلى 10 شباط (فبراير) وخلال الاصطياد الشرس للشيوعيين من بيت إلى بيت في الأيام التي تلت" . ثم يقول متابعاً: "وذكر مصدر في الفرع الأول من مديرية الأمن العراقية للمؤلف في العام 1967 أن عدد القتلى للشيوعيين يومها وصل إلى 340 قتيلاً. وقدر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الإطلاع ولا يرغب في ذكر اسمه مجموع عدد القتلى بحوالى 1500, ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع و "شيوعيين كثيرين" . أما عدد البعثيين الذين قتلوا في هذه المعارك فقد قدر بالعشرات, إذ ذكر حنا بطاطو ذلك بقوله: "أما البعثيون فيقدرون خسائر حزبهم بثمانين شخصاً" . قدم حي الأكراد معركة بطولية وملحمية يائسة ضد الانقلابيين بقيادة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي محمد صالح العبلي, الذي اعتقل فيما بعد مع عدد من أعضاء قيادة الحزب وعذب بشراسة واستشهد تحت التعذيب. وإذ بدأ القتال في هذا الحي بمشاركة ما يقرب من 4000 مقاوم, تقلص العدد إلى 1500 مقاوم في اليوم الثاني من الانقلاب وإلى 500 مقاوم في اليوم الثالث منه, وجلهم من الشيوعيين وأصدقاء الحزب ومن أبناء حي الأكراد . وكانت خاتمة المعارك ونهاية المقاومة المسلحة للانقلاب. -;---;-- المبحث الثالث
الاستبداد والقسوة في ممارسات التحالف البعثي-القومي
في الثامن من شباط/فبراير من العام 1963 وقع انقلاب عسكري في بغداد بقيادة تحالف مشترك بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبعض الجماعات القومية الناصرية وغير الناصرية والقوى الكُردية. ونجح هذا الانقلاب في إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم وقتله مع مجموعة من صحبه في دار الإذاعة العراقية وبدون محاكمات (راجع الملحق رقم 4), وإحلال حكومة بعثية-قومية يمينية في محلها. ومنذ اليوم الأول للانقلاب أعلن البيان الأول "للثورة" باسم "المجلس الوطني لقيادة الثورة", ثم أُعلن عن اختيار العقيد المتقاعد عبد السلام محمد عارف رئيساً للجمهورية والعقيد أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء وعلى صالح السعدي نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية ورشيد مصلح حاكماً عسكرياً عاماً, إضافة إلى اختيار البكر لرئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة. وضم المجلس الوطني لمجلس قيادة الثورة الأشخاص التالية أسماؤهم: العقيد أحمد حسن البكر. المقدم الركن صالح مهدي عماش. المقدم الركن خالد مكي الهاشمي. المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف. العقيد ذياب العلگاوي. المقدم الركن حردان عبد الغفار التكريتي. العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت. على صالح السعدي. حازم جواد. طالب حسين الشبيب. الملازم الأول منذر توفيق الونداوي. العقيد الركن عبد السلام محمد عارف الرائد أنور عبد القادر الحديثي. العقيد طاهر يحي. ومنه يبدو أن المجلس قد ضم إليه ثلاثة من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي فقط, في حين ضم غالبية أعضاء المكتب العسكري لحزب البعث, إضافة إلى قومي ناصري إسلامي واحد هو عبد السلام محمد عارف. أي أن عدد المدنيين في المجلس الوطني لقيادة الثورة بلغ ثلاثة أشخاص فقط من مجموع 14 عضواً, أما الباقي فكان من الضباط العسكريين. وكان عدد مهم منهم من أعضاء حركة الضباط الأحرار التي قادت ثورة تموز 1958, وكان هذا البعض منذ البدء على خلاف تام مع عبد الكريم قاسم, وخاصة عبد السلام محمد عارف, وضد الحزب الشيوعي العراقي, ومن الذين تميزوا بالقسوة والاستعداد للبطش بالمعارضين. وهو ما تحقق فعلاً. اعتبر المجلس الوطني لقيادة الثورة بمثابة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في آن واحد. إذ غالباً ما صدرت عنه قرارات بالموت على عدد كبير من الأشخاص كانوا قد قتلوا تحت التعذيب أصلاً. فهو المشرع للقوانين وهو المنفذ لها عبر أجهزة تابعة له, وهو القاضي أيضاً, وبالتالي ألغى من نظام الدولة المبدأ الأساسي في الحكم والمجتمع المدني الذي يقوم على أساس الفصل بين السلطات, خاصة وأنه كان يصدر أحكاماً بالموت على عدد كبير من النسا دون العودة إلى المحاكم الاعتيادية, أو يشكل محاكم غير خاضعة لقانون, كما في محاكم الثورة أو المحاكم الخاصة التي كان يشكلها بين الحين والآخر. وزع المجلس الوطني لقيادة الثورة المهمات على عدد من العناصر المشاركة في الانقلاب وخاصة بالنسبة إلى الوحدات العسكرية والمحاكم العرفية ومجلس الوزراء. تشكلت الحكومة الجديدة من ممثلين عن القوى المشاركة في الانقلاب, وهم: 1 – الزعيم أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس الوزراء. 2 - على صالح السعدي نائباً لرئيس الوزراء. 3 – المقدم الركن صالح مهدي عماش وزيراً للدفاع. 4 – طالب حسين الشبيب وزيراً للخارجية. 5 - المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف وزيراً للمواصلات. 6 - الدكتور عزت مصطفى وزيراً للصحة. 7 - مهدي الدولعي وزيراً للعدل. 8 - الزعيم الركن محمود شيت خطاب وزيراً للبلديات. 9 - الشيخ بابا علي وزيراً للزراعة. 10 - الدكتور عبد العزيز الوتاري وزيراً للنفط. 11 - الدكتور أحمد عبد الستار الجواري وزيراً للتربية والتعليم. 12 - صالح كبة وزيراً للمالية. 13 - عبد الستار علي الحسن وزيراً للإسكان. 14 - شكري صالح زكي وزيراً للتجارة. 15 - الدكتور سعدون حمادي وزيراً للإصلاح الزراعي. 16 - حميد خلخال وزيراً للشؤون الاجتماعية. 17 - الدكتور مسارع الراوي وزيراً للإرشاد. 18 - الدكتور عبد الكريم العلي وزيراً للتخطيط. 19 - الزعيم الركن ناجي طالب وزيراً للصناعة. 20 - الزعيم فؤاد عارف وزيراً للدولة. 21 – حازم جواد وزيراً للدولة. ضم مجلس الوزراء 21 عضواً, بلغ عدد المدنيين منهم 15 شخصاً و6 من العسكريين, ولكن المدنيين من البعثيين والقوميين لم يكونوا أقل قسوة وشراسة من العسكريين. ضم المجلس ثلاث قوى سياسية. وهي: حزب البعث العربي الاشتراكي 14 وزيراً زائداً رئيس الوزراء الحزب الديمقراطي الكُردستاني وزيراً واحداً زائداً وزيراً كردياً آخر محسوب عليه الجماعات القومية 4 وزراء..
ثم أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة قراراً بمنح العقيد الركن عبد السلام محمد عارف لقب مشير ركن أولاً, وتنصيبه رئيساً للجمهورية ثانياً. ونصب الزعيم رشيد مصلح, وهو من القوميين والمتدينين المتشددين حاكماً عسكرياً على البلاد. أصدر المجلس الوطني الذي قاد الانقلاب منذ اليوم الأول لممارسة نشاطه مجموعة من القرارات التي تميزت بالشدة والعنف والقسوة البالغة. وأبرز تلك القرارات هي: البيان رقم 1 الذي أعلن فيه "البيان الأول للثورة". وبعد البيان الأول أذاع الانقلابيون نبأ كاذباً أشير فيه إلى مقتل عبد الكريم قاسم وصحبه في وزارة الدفاع, في حين أنه كان لا يزال يقاتل مع صحبه في الموقع المذكور. البيان رقم 2 الذي أعلن فيه إحالة 18 عسكرياً كبيراً إلى التقاعد, وكان بعضهم قد قتل بعد صدور البيان الأول, مثل جلال جعفر ألأوقاتي, في حين قتل البعض الآخر منهم في اليوم الثاني والثالث, وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي, وطه الشيخ أحمد, ووصفي طاهر, وعبد الكريم الجدة وغيرهم. البيان رقم 3 الذي تم بموجبه تشكيل الحرس القومي, الذي كان قد شكل قبل الانقلاب بفترة غير قليلة, والذي تميز بالقسوة البالغة والقتل العشوائي للناس والمنفذ الفعلي لجرائم النظام. البيان رقم 4 الذي تم فيه توزيع المهمات على قيادة الحرس القومي وجميعهم من العسكريين بعد أن منح أغلبهم رتباً عسكرية. البيان رقم 5 تم بموجبه تعيين الزعيم الركن عبد الغني الراوي قائداً للقوات العسكرية في منطقة الرمادي, وهو الضابط الذي عرف بولائه للسعودية من جهة, وعدائه الشديد للحزب الشيوعي العراقي والذي كان قد طالب بقتل جميع السجناء الشيوعيين دفعة واحدة, ولكن توصل إلى قتل الكثيرين منهم, من جهة ثانية, كما كان من بين المشاركين في أغلب محاولات الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم من جهة ثالثة. البيان رقم 6 حيث أغلقت بموجبه الحدود والمطارات لمنع هروب المناهضين للنظام. البيان رقم 7 وتضمن منع تحرك الوحدات العسكرية من مواقعها إلا بأمر من المجلس الوطني لقيادة الثورة. ثم صدرت بعض البيانات الأخرى التي تم بموجبها إجراء تعيينات جديدة ومنع التجول وتعيين الرئيس الأول الركن جميل صبري البياتي مديراً عاماً لجهاز الأمن, وهو من البعثيين الذين شاركوا في تنفيذ الانقلاب, إضافة إلى تعيين مدير الشرطة العام. ثم صدر البيان رقم 13 السيئ السمعة عن المجلس الوطني لقيادة الثورة, إذ جاء فيه ما يلي: "إلى الشعب العراقي الكريم نظراً لقيام الشيوعيين العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لأحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الآنصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن وإننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم" . (راجع الملحق رقم 4). ثم صدر عن الحاكم العسكري العام في التاسع من شباط/فبراير 1963, الزعيم رشيد مصالح, بلاغاً أعلن فيه ما يلي: "لقد تم إلقاء القبض على عدو الشعب كريم قاسم ومعه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان خليل حداد من قبل القوات المسلحة وقد شكل مجلس عرفي عسكري لمحاكمتهم وقد أصدر المجلس العرفي العسكري الحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيهم رمياً بالرصاص في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر هذا اليوم" , أي في 9/2/1963. كل الوثائق التي تحت تصرفنا تشير إلى أن قاسم وصحبه قتلوا في دار الإذاعة العراقية بقرار من المجموعة التي التقت هناك ودون أي محاكمة حتى لو كانت شكلية والتي سنأتي على وقائعها لاحقاً. (راجع الملحق رقم 5). في الخامس والعشرين من شهر مايس/أيار 1963 صدر مرسوم جمهوري يقضي بتشكيل "محكمة الثورة" التي ضمت في عضويتها العقيد شاكر مدحت السعود رئيساً وعضوية كل من المقدم الركن حسين عبد الجبار والمقدم الركن حسن مصطفى النقيب والرئيس فاضل جاسم العاني (عضو احتياط), إضافة إلى هيئة للادعاء العام. وبعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ صدر مرسوم أخر ألغى فيه مرسومه السابق مشيراً إلى تشكيل محكمة جديدة لم يذكر فيها اسم رئيس المحكمة واكتفى بالأعضاء. وقد شكلت "محكمة الثورة" بعد أن كان القتل قد شمل أعداداً كبيرة من الشيوعيين والديمقراطيين وفق قرارات صادرة عن جهات حزبية أو عسكرية دون وجود أو تقديم المعتقلين إلى محكمة خاصة أو تعرض قضاياهم على محاكم أخرى. وفيما بعد أصدرت محكمة الثورة قرارات بإعدامهم بعد موتهم بفترة طويلة. كان إحساس المجموعة الانقلابية التي سيطرت على الحكم يشير إلى أنها تمتلك القوة والتأييد الذي يسمح لها بارتكاب أبشع الجرائم بحق المعارضين للانقلاب. فقد تمتعت بتأييد الجهات التالية: على الصعيد الداخلي 1. الفئات الإقطاعية وكبار ملاكي الأراضي الزراعية التي تضررت من حكم عبد الكريم قاسم, وخاصة بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي والبدء بتنفيذه, أو الإجراءات الأخرى التي اتخذت في هذا الصدد. 2. فئة الكومبرادور التجاري والعقاريين. 3. القوى الدينية التي اعتقدت بأن عبد الكريم قاسم يتعاون مع الشيوعيين. وفي عام 1961 تأسس لأول مرة حزب سياسي أطلق عليه شعبياً بـ "حزب الفاطميين" في العراق, وهو حزب الدعوة, حزب شيعي المذهب, طائفي النزعة, كما برزت أحزاب دينية سنية ناهضت حكومة عبد الكريم قاسم من مواقع مذهبية وقومية. 4 الحزب الديمقراطي الكُردستاني بسبب الحرب التي شنها عبد الكريم قاسم ضد الحركة الكُردية المسلحة التي كانت تطالب بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكُردي. وكان قد تم الاتفاق بين حزب البعث والقوى المتحالفة معه والحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة ملا مصطفى البارزاني "بحل المسألة الكُردية في إطار الحكم الذاتي لمنطقة كُردستان العراق, على أن تبادر الحركة الكُردية بإعلان تأييدها للثورة عند قيامها" . سنرى بأن القادة الكُرد قد وفَّوا بالتزامهم, في حين نكث البعثيون والقوميون بما تعهدوا به للقادة الكُرد.
على الصعيد العربي والإقليمي والدولي 1. جميع القوى البعثية والقومية في المنطقة العربية أيدت الانقلاب بسبب عدائها لحكومة قاسم من منطلقين أولهما "رغبتها في أن تكون قوى البعث والقوى القومية في السلطة مباشرة, وثانيهما يفترض أن تكون "قناعتها" بتحقيق الوحدة التي لم يندفع لها قاسم مع مصر وسوريا. 2. جميع النظم العربية التي كانت ترى في عبد الكريم قاسم إما معادياً للوحدة العربية, كما في حالة مصر وسوريا, أم أنه من مساندي الشيوعيين والاتحاد السوفييتي وبالتالي يفترض الخلاص منه. 3. النظم المجاورة وخاصة إيران وتركيا بسبب ارتباط تلك الدول بحلف بغداد الذي انسحبت منه حكومة عبد الكريم قاسم, وبسبب تطور علاقات التعاون والصداقة مع الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان الاشتراكية, وكذلك بسبب الإجراءات الداخلية التي مارستها والتي تتعارض مع نهج تلك الحكومات. 4. شركات النفط الاحتكارية وغيرها بسبب التحولات التي طرأت على الوضع الاقتصادي في العراق والإجراءات التي اتخذتها حكومة قاسم في مجال اقتصاد النفط والتجارة والعلاقات الاقتصادية الدولية. 5. وقفت الدول الرأسمالية المتقدمة, بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا على نحو خاص, ضد حكومة عبد الكريم قاسم بسبب سياساته التحررية والديمقراطية النسبية وإلغاء القواعد العسكرية في العراق وعلاقاته مع دول عدم الآنحياز ومبادرته في إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك) ...الخ. كما أن حكومة قاسم فقدت الكثير من قاعدتها السياسية التي كانت تؤيدها بسبب السياسة الفردية التي بدأ يمارسها قاسم في الداخل وتراجعه غير المعلن عن جملة من الإجراءات الداخلية بسبب طبيعة أجهزة الدولة التي كانت معارضة لتلك السياسات الديمقراطية التي أطلقتها الثورة في أعقاب وقوعها مباشرة, مما أوجد قطيعة غير واضحة بين أوساط واسعة من الشعب وبين حكومة عبد الكريم. وزاد في الطين بلة الموقف غير العقلاني وغير العادل لعبد الكريم قاسم من القضية الكُردية ومن وضع الدستور الدائم والحريات الديمقراطية في البلاد. أدت كل تلك الأوضاع إلى انهيار حكومة عبد الكريم قاسم ولم تنفع محاولات الشيوعيين والقوى المؤيدة لعبد الكريم قاسم والكُرد الفيلية في الدفاع عن نظام حكم قاسم, فسقط تحت ضغط القوى المناهضة لحكمه وأخطاء سياساته وعدم اتخاذه الإجراءات الكفيلة بتعبئة الناس حول حكومته. ارتبط السقوط بجملة من مظاهر القسوة والعنف الجامح في مواجهة قيادة الدولة والجماهير الواسعة, وخاصة القوى التي حسبت على الحكم, ومنهم الشيوعيون والقاسميون والمستقلون والقوى الديمقراطية في الأحزاب التي لم تلتق في اتجاهاتها الفكرية والسياسية مع حزب البعث أو الجماعات القومية اليمينية. ونشير في أدناه إلى أبرز تلك الإجراءات التي تدخل في باب الاستبداد والقسوة والعنف الشرس التي مارستها السلطة الجديدة إزاء القوى السياسية غير المتفقة معها أو المعارضة لها: • إعدام قائد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموعة من كبار ضباط الثورة رمياً بالرصاص ودون محاكمة شرعية تستند إلى القوانين العراقية المرعية. وعرض جثث هؤلاء على شاشة التلفزيون, ويشار على أن جثث البعض منهم رميت في نهر دجلة. (راجع الملحق رقم 5). • اعتقال عدد كبير جداً من الضباط وضباط الصف والجنود والمواطنين من مختلف الأحزاب السياسية, وبشكل خاص أعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي واليسار الديمقراطي والحزب الوطني الديمقراطي. • إعدام مباشر لعدد غير قليل من الشيوعيين من عسكريين ومدنيين دون محاكمات قانونية. • ممارسة شتى أشكال التعذيب المرعب ضد المعتقلين بهدف انتزاع اعترافات منهم عن تنظيماتهم الحزبية وعلاقاتهم السياسية وإسقاطهم سياسياً ودفع البعض منهم للمشاركة في مطاردة رفاقهم السابقين. • كانت روح الآنتقام والكراهية والرغبة في الآنتقام من الآخر تهيمن على سلوكية القوى المهيمنة على الحكم وعلى تلك القوى التي أخذت على عاتقها مطاردة المعارضين للنظام أو التحقيق معهم. وجدير بالإشارة أن هذه الفترة عرفت حقيقة تشابك ثلاثة عناصر في سلوكية القوى التي في السلطة في مواجهة القوى الأخرى, وهي: أ . الأيديولوجية والذهنية القومية المتعصبة والشوفينية أو العنصرية المقيتة إزاء الآخر. ب . التعصب الديني والأصولية الدينية إزاء الشيوعيين باعتبارهم ملحدين وإزاء جميع القوى اليسارية والديمقراطية. ج . الاستعداد الشديد لممارسة العنف في مواجهة الآخر والتخلص منه ومسحه بالأرض من مواقع السلطة واحتكار العنف, مع إصرار بدوي غير معهود في الحياة المدنية على إعطاء زخم شديد لتحقيق التفاعل لدى الأتباع في المزج الفعلي بين الاستعداد لممارسة العنف وبين روح الثأر وحب الآنتقام ضد من صوروا على أنهم الأعداء في المجتمع للقومية العربية والوحدة العربية والإسلام. كان البعثيون والقوميون في هذه الفترة, ورغم التحالفات المؤقتة التي أقاموها, إذ لم يكونوا مقتنعين بأي تحالف استراتيجي بل كانت كل التحالفات التي عملوا لها أو دخلوا فيها مؤقتة ولأغراض آنية, قد صمموا على مواجهة القوى التالية: ¬** الحزب الشيوعي العراقي بسبب امتلاكه لأيديولوجية أممية واضحة المعالم والأهداف واعتبارها منافسة لأيديولوجية البعث القومية ذات البعد القومي الشوفيني, وبسبب جماهيرية الحزب الشيوعي الواسعة جداً بالقياس إلى بقية القوى السياسية في العراق, ولكونه كان يناضل من أجل السلطة, ويتخذ مواقف واضحة إزاء جملة من المسائل العراقية, ومنها القضية الكُردية, أو دعوته الهادئة لتحقيق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية. في لقاء صحفي عقد في دمشق مع علي صالح السعدي, نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية, قال فيه جواباً عن سؤال وجه له: "إذا أطلقتم حرية الأحزاب في العراق, فكيف يكون موقفكم من الحزب الشيوعي العراقي؟, ما يلي: "بالنسبة لحرية الحزب الشيوعي, وفي الواقع نحن بالأحداث التي مرت بالعراق, والتي توضحت بالنسبة للحزب الشيوعي في موقفين ظاهرين من سلوكه العام منذ تأسس حتى الآن. والسلوك العام يتركز بالنسبة لمواقف عديدة له: موقف الحزب الشيوعي العراقي عندما أصبح مطية للحلفاء باسم المعسكر الديمقراطي في حركات مايس 1941, وموقف الحزب الشيوعي السوري عند حكم الفرنسيين, وكيف كان الفرنسيون باسم الموقف مع الحلفاء, وموقف الحزب الشيوعي الجزائري والفرنسي بالنسبة لمجزرة 1945 التي كان فيها موريس توريز في الحكم وقت المجزرة. ونذكر موقف الحزب الشيوعي عندما أصبح مطية للصهيونية سنة 1948 وسمى الحرب الفلسطينية بالحرب الفلسطينية القذرة ورفع شعار إخوانه اليهود, وأصبحت فصائله في الأردن وفي فلسطين عبارة عن رتل خامس تطعن الجيوش العربية وتتجسس عليها. في الواقع أن الحزب الشيوعي (تكسي) امتطاها عبد الكريم قاسم وامتطاها الشيشكلي في حينه. فالحزب الشيوعي هذه أعماله, وتوج أعماله بالجرائم التي ارتكبها في العراق بالسحل والإجرام الذي ارتكبه والذي عرفتموه. ... ومن الناحية القومية : إن الحزب الشيوعي نعتبره رتلاً خامساً..." . وأنهى أجابته عن هذا السؤال بقوله: "ولهذا فأن الحزب الشيوعي في العراق سيحرم حرماناً كاملاً ومطلقاً, ولن نسمح للشيوعيين في العراق بممارسة عملهم لاسيما وتسندنا في هذا المنطق النظري الأعمال التي ارتكبها الحزب الشيوعي" . جاء هذا في نشرة الآنباء الداخلية السورية في دمشق بتاريخ 11/3/1963. إن هذا الحديث المليء بالمغالطات والافتراءات يكذب الادعاء الذي طرحه علي صالح السعدي بعد سنوات حين أكد إلى الشاعر الشيوعي العراقي مظفر النواب, وبعد أن أصبح بعيداً عن الحكم تطارده أشباح الذين ساهم بقتلهم وتعذيبهم, بأنه لم يكن راغباً في قتل الشيوعيين, بل أن مقاومتهم هي التي جعلت الوضع يتدهور معهم إلى تلك الدرجة. وتأسيساً على هذا التوجه البعثي القومي أصدر رئيس الجمهورية, عبد السلام محمد عارف, ورئيس الوزراء, أحمد حسن البكر, ونائب رئيس الوزراء ووزير الإرشاد على صالح السعدي, وبناء على ما عرضه وزير العدل, مهدي الدولعي, الأخير بتاريخ 19/5/1963 القانون رقم (38) سمي بقانون ذيل قانون العقوبات البغدادي الموجه ضد الحزب الشيوعي والشيوعية والترويج لها, إذ تقرر بموجب هذا القانون إنزال عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة بكل من يروج أو يحبذ تلك الأفكار, إذ أن القانون قد اعتمد على المادة (78) من قانون العقوبات البغدادي فقرر معاقبة كل من حبذ أو روج "أياً من المبادئ التي ترمي إلى الطعن في القومية العربية وأهداف الأمة العربية , وإثارة النعرات العنصرية أو المذهبية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة , أو شارك في تنظيمات سرية ترمي إلى تغيير نظام الحكم والمبادئ والأسس المقررة للهيئة الاجتماعية وذلك بطريقة مباشرة أو بواسطة هيئات أو منظمات تسعى للغرض المذكور, ..." . ** ضد القوى القومية الكُردية وحزبها الديمقراطي الكُردي بسبب مطالبة هذا الحزب بضمان حق تقرير المصير ودعوته لإقامة الحكم الذاتي لإقليم كُردستان العراق أو الفيدرالية في إطار الجمهورية العراقية. وكان موقف البعث ينطلق من الذهنية القومية الشوفينية إزاء الكُرد وإلى اعتبار العراق كله جزءاً من الوطن العربية والأمة العربية, وهو أمر مخالف لواقع العراق وبنيته القومية الفعلية. كما كان يعتبر القوى القومية الكُردية حليفاً طبيعياً للحزب الشيوعي في العراق بسبب مواقف الأخير إلى جانب القضية الكُردية. ولم يكن التحالف الذي تم بين القوى القومية, بمن فيهم حزب البعث, لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم سو تحالفٍ مؤقتٍ للخلاص من عدو بعينه ثم الالتفاف على الحليف للخلاص منه. ** ضد القوى الإسلامية باعتبارها قوى منافسة لها, إذ أنها كانت القوى القومية والبعثية بشكل عام تعتبر الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات القومية العربية و من الأساس الفكري القومي الذي تعتمده في دعايتها وفي كسب الناس إليها, وبالتالي فهي ضد أية قوى أخرى في هذا الشأن, سواء أكانوا من أتباع المذهب السني أم المذهب الشيعي. ولكنهم كانوا يضيفون في مواقفهم ضد الشيعة إلى أن أتباع المذهب الأخير شعوبيين وهم أكثر تأييداً لإيران من تأييدهم لأية دولة عربية. وفي هذا تجاوز على واقع وطنية أتباع المذهب الشيعي. وفي الحقيقة كان الصراع بين القوميين والبعثيين على أشده, إذ أن كلاًُ منهما كان يدعي الوصل بليلى ويرى نفسه ممثلاً للقومية العربية دون غيره ويفترض حل تنظيمات الآخر. وقد تبلور هذا الصراع بعد فترة وجيزة من نجاح انقلاب 1963 وتتوج بانقلاب القوميين ضد البعثيين في 18 تشرين الثاني 1963 والإجراءات التي اتخذت ضد البعثيين في حينها. وكان الهدف من وراء مكافحة كل هذه القوى هو الهيمنة على السلطة والآنفراد بها وفرض الأيديولوجية القومية على المجتمع بغض النظر عن رأي ومواقف الناس إزاء هذه الأيديولوجية والسياسة والمواقف التي تتخذها القوى القومية, سواء أكانت جماعات قومية أم بعثية. ** ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القوى السياسية البعثية والقومية التي تسلمت الحكم قد شكلت مجلساً وطنياً لقيادة الثورة وضعت في يديه منذ اللحظة الأولى السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية, إضافة إلى أنها مارست احتكار كافة وسائل الإعلام, وبالتالي سمحت لنفسها أن تمارس كل شيء دون حسيب أو رقيب, إذ أن التشابك الفكري في ما بين العناصر الثلاثة المشار إليها في أعلاه يقود, متى وأينما حصل, إلى نشوء سلوكية شديدة العداء والشراسة إزاء الآخر, إذ أن مثل هذه الذهنية المركبة تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة كلها وتجسد الخير كله, وان الآخر لا يمتلكها ويمثل الباطل وقوى الشر بعينها ولا بد من التخلص منها وحرمانها من الحق في الحياة بمختلف السبل. ولم يعد هما ضرورياً في ممارسة العنف من جانب هذا الطرف إزاء الآخر, سواء أكان قد أعلن ومارس مقاومة الانقلاب فعلاً أم خلد إلى السكون, إذ أن التصميم قائم في التخلص من الأعداء! وفي ضوء هذا الواقع وتلك الاتجاهات العقائدية المركبة اتخذت قوى الانقلاب التي تسلمت السلطة مجموعة من الإجراءات التي تعبر عن التصميم في ممارسة العنف والقسوة بأبسط وأقصى أشكالها. نشير في أدناه إلى أبرزها: 1. تشكيل مجلس قيادة الثورة من مجموعة أساسية من قياديي حزب البعث والجماعات القومية, مع منح أنفسهم, وفق قانون صادر عنهم دون أي شرعية دستورية, السلطات الثلاث, التنفيذية والتشريعية والقضائية, واحتكار جميع أجهزة الإعلام دون استثناء وفرض الأحكام العرفية في البلاد. وهو قرار مخالف لمبدأ الفصل بين السلطات الذي اقر في الوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وكذلك في شريعة حقوق الآنسان بكل أجزائها. 2. تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة من يلقى القبض عليه مباشرة ومنح هذه المحاكم حق تنفيذ تلك الأحكام دون تأخير . وهو قرار مخالف للشرعة الدولية ودساتير الدول الديمقراطية وحقوق الآنسان. 3. تشكيل لجان تحقيق خاصة سلمت قيادتها بيد البعثيين بشكل خاص مع مشاركة من القوميين. منحت هيئات التحقيق هذه الصلاحيات الكاملة دون استثناء في التعامل مع المعتقلين بما في ذلك التعذيب بكل صوره والقتل والدفن أو الرمي في نهري دجلة والفرات من الناحية الفعلية. وكانت لجان التحقيق الخاصة تخضع إلى لجنة تحقيق مركزية مقرها في بغداد, كانت في البداية تحت أمرة ضابط عسكري قومي يدعى مصطفى عبد الكريم نصرت, ومن ثم تحت قيادة ضابط عسكري طيار من قياديي حزب البعث يدعى هشام الونداوي. وكان صدام حسين حينذاك عضواً في لجنة التحقيق المركزية التي مارست كل اشكال التعذيب بحق المعتقلين وقتلت الكثير منهم أثناء التحقيق وعلى أيديهم وأيدي جلاوزة التعذيب الآخرين. 4. تشكيل القوات العسكرية الخاصة التي سميت بالحرس القومي. منح هذا الحرس حق مطاردة واعتقال وقتل من يهدد أمن الحكم الجديد . وقد صدر بهذا الصدد القانون رقم 13 لسنة 1963 الذي يمنح الحرس القومي حق قتل الشيوعيين في الموقع مباشرة. وضم الحرس القومي عدداً كبيراً من الشباب القومي الجامح أو المنحدرين من الريف أو من بسطاء الناس من مختلف الأعمار الذين انجروا لهذا الحرس وبدأوا بممارسة ما يطلب منهم إزاء الآخرين الذين وصفوا بالأعداء. 5. تأمين السيطرة الكاملة على أجهزة الدولة ومنع ممارسة الحياة الحزبية والسياسية أو إصدار الصحف والمجلات على كل القوى السياسية في البلاد وفرض الرقابة على إصدار الكتب والنشر بشكل تام. 6. شن حملة اعتقالات واسعة جداً شملت الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين الحزبيين والمستقلين وأنصار عبد الكريم قاسم والكثير من الشخصيات السياسية الوطنية والشخصيات الاجتماعية والعلمية وجمهرة كبيرة من الأدباء من شعراء وكتاب وكذلك مجموعة كبيرة من الفنانين من مسرحيين وسينمائيين وموسيقيين ومغنين وآخرين, إذ اعتبر هؤلاء كلهم وغيرهم في عداد المناوئين للنظام الجديد. 7. ممارسة شتى أشكال التعذيب القديمة والحديثة مع المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم حول تنظيماتهم ومواقع رفاقهم أو ممارساتهم السابقة ودورهم في دعم حكم عبد الكريم قاسم ...الخ. وقد قتل على أيدي هيئات الت
|