اي حكم قضائي يصدر من المحكمة يعتبر قانونا واجب التنفيذ بعد انقضاء المدة القانونية التي يكتسب خلالها الدرجة القطعية ما لم يُميز او يطعن بقانونيته او دستوريته. ولما كانت المحكمة الاتحادية قد اصدرت حكما قاطعا بعدم دستورية منح النواب رواتبا تقاعدية، فان هذا الحكم قد اصبح قانونا ملزم التنفيد وموجب التقيد به وتقع على السلطة التنفيذية ودوائرها المختصة مسؤلية تنفيذه وعلى مجلس النواب مراقبة الالتزام بنصه وجوهره. لكننا لا نعرف لهذه اللحظة اذا ما كانت وزارة المالية مستمرة بصرف الرواتب التقاعدية للنواب السابقين ام انها توقفت عن ذلك، وسوف لن نعرف ايضا في المستقبل لان موازنة الدولة تأتي دائما خالية من الحسابات الختامية التي تتم على ضوئها المسائلة واكتشاف الخروقات. واي تشريع او تطبيق يتناقض مع الحكم يعتبر خرقا قانونيا وحنثا بالقسم الدستوري الذي ينص على الالتزام والتقيد التام بالقوانين والنظم والدستور. ووفقا لذلك، فان كل النواب الذين صوتوا بنعم على الفقرة الخاصة بمنح اعضاء البرلمان رواتبا تقاعدية، قد حنثوا بايمانهم الدستورية ووقعوا تحت طائلة الحساب والمسائلة القانونية وان كانوا اغبياء وبلهاء ان احسنا بهم الظن ولم نقل انهم حثالة لصوص وقحين، اذ ان القانون لا يحمي المغفلين. لكننا في العراق، واحة الفوضى غير الخلاقة، ومركز الخروقات القانونية والحقوقية، ومقر النفاق الديني والاجتماعي، ووكر كبار الصوص الحرامية والمهربين والمزورين، وبلد التناقضات العجيبة التي تجعل شعوب اسوء بلدان العالم تحمد ربها لانها لم تصل الى مرحلة التردي التي وصل اليها العراق، فلا عجب ولا غرابة من عدم الالتزام بالدستور او بالقانون او بالنظام او بالقواعد، بل العجب والدهشة ان تجد بضعة نواب او مسئولين قد التزموا بقواعد الادب والسلوك وفهموا واجباتهم وتقيدوا بالقانون ولم يكذبو او ينافقوا او يجاملوا. ان مشكلة العراقيين هو الوقوع في وهم مجمله الاعتقاد بان احزاب العملية السياسية قادرة على انصاف الناس وتطبيق القانون والالتزام بالدستور والتقيد بالنظم والقواعد الديمقراطية. يغفل المتفائلون بان الديمقراطية في العراق ليس صناعة وطنية بل انها تطبيق مفروض من خارج البناء الحزبي والتنظيمي للاحزاب الحاكمة ذات الفكر الديني والعشائري والطائفي، بل لا نبتعد عن الحقيقة اذا قلنا بانها، اي الديمقراطية بعيدة ايضا حتى عن البناء الشعبي. جوهر الديمقراطية هو الالتزام بالقانون وبالدستور، لكنهما، اي القانون والدستور، يفقدان قوتهما وعنفهما اذا اضمحل قسر الالتزام بهما، وضعف تفهم التشريع وغاب الخوف من عاقبة المسائلة. واذ كان عنف الدولة لا يتوزع على جوهر السلطات الثلاث كأجهزة مختصة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، انما يتوزع على ممثلي هذه السلطات كافراد، مثل المالكي والنجيفي والمحمود، عندها تكون الديمقراطية عبارة عن لعبة صراع لتناقضات عدوانية وليس تعاون لأرادات وطنية، كما هو الحال في العراق. ان الديمقراطية في العراق، وهي لم تعد في بداياتها اطلاقا، اذ قد مضى عشر سنوات على التغيير، واستقر البرلمان في عمله لمدة ثمان سنوات كاملة، والاستقرار لا نقصد نجاحا ولا انتظام العمل، بل اكتمال هياكله ولجانه وسيولة ماليته. كذلك قد اكتملت الاجهزة الحكومية والتشريعة والقضائية ولم تعد تعاني من نقص في الكوادر ولا من ضعف في الصلاحيات ولا من احتياجات مالية ، بل من وفرة مالية مجهولة الانفاق، ان هذه الديمقراطية المفروضة من خارج التكوين الفكري للاحزاب الحاكمة هي غلاف براق لبضاعة فاسدة، اذ ان من اول مبادئ الديمقراطية هو الالتزام بالقوانين والدستور والاحكام، فاذا كانت الجهة التي تشرف على تشريع وتصديق الاحكام تسحق باحذيتها على القوانين، فماذا تبقى من الديمقراطية عندها. كما اننا لم نسمع رأيا او تصريحا او طعنا من السلطة القضائية هي سلطة مستقلة، ومرجع لدستورية الاحكام والقوانين، وصاحبة الحكم القائل بعدم قانونية تقاضي النواب رواتبا تقاعدية، بينما نسمع اصوات احتجاج ساذجة للمرجعية الدينية تقول بان على الناس ان تنتخب فقط المرشحين الذين يتعهدون بعدم اخذ الرواتب التقاعدية. ان هذه المرجعية تجهل ان القانون ليس تعهدات شخصية بل احكام قسرية، انها لا تفرق بين الالتزام الاخلاقي، الذي هو في كل الاحوال سلوك اختياري، وبين الفرض القانوني الذي هو في جميع الاحوال اوامر قسرية تنطبق على الجميع. ان ما جاء بخطبة المرجعية، جاء تخفيف لثقل الصدمة الشعبية التي سببها عدم التزام مجلس النواب بالقانون والاحكام القضائية. ان مجابهة هؤلاء النواب-الحانثين بالقسم يجب ان يكون قضائيا وقانونيا وشعبيا وصحافيا واعلاميا لابطال القانون وكذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية وفرض التساوي بالعيش، اذ ان من المعيب ان يعيش اطفال العراق على المزابل واطفال الذوات، حتى وهم في خارج العراق في القصور والفلل
|