لماذا ارتد هذا الشيعي عن دينه؟

في إنجيل متى نقرأ النص التالي عن سيرة النبي يسوع عليه السلام: [ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدًا. فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا. فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فاتت وسجدت له قائلة يا سيد اعني. فأجاب وقال ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة.] (الإنجيل على رواية متى: الإصحاح 15: 21-28) وهكذا يروي الإنجيل بأن المسيح وصف الكنعانيين بالكلاب، وهذه التحقير ليس خاصاً بالكنعانيين بل لكل الأمم غير اليهود.

المرتد هو اخي، أو بالأحرى من كان شقيقاً لي، ثم تبرأت منه علناً، وكنت قد وعدت سابقاً بالكتابة متقصياً الأسباب المحتملة لارتداده، وها أنا أفي بوعدي.

ولد المرتد في 1945م لأب من رؤوس قبيلته وأم من السادة تصغره بسنين، كانت الزوجة الرابعة، أسكنها في بيته الريفي مع زوجاته الآخريات، حصتها من البيت المبني بالطابوق غرفة واحدة، كان من الطبيعي أن تحقد عليها ضراتها وأولادهن، وازدادت كراهيتهم لها مع مجيء مولودها الأول، محمد أصلاً ومايكل لاحقاً، تدعي بان مولودها الثاني مات مقتولاً، بأيدي حاقدة، والله أعلم، وسواء كانت تلك حقيقة أم محض تصور عقل أم مضطرب لفقد وليدها فقد تصرفت على أساس أنها واقعة، واقنعتنا بذلك، وعشت معها وثالثنا الخوف ورابعنا الحزن المتواصل، أما المرتد فقد كان في حينها مرتداً بقلبه عنها، لا يطيق البقاء في غرفتها، يخرج كل يوم للعب مع أخوانه غير الأشقاء واصحابهم، غير مكترث لما يتعرض له من سوء المعاملة، وتصوروا خوفها عليه بعد وفاة ابنها الثاني الذي تقول بأنه مات مقتولاً، أما أنا فقد كنت على عكس ذلك، نادراً ما خرجت من غرفتها، ولم يتجاوز عمري الرابعة عندما تعلمت السب والشتم، مجبراً لا مختاراً، كانوا يسبون والدتي فتبكي فأقف عند مدخل غرفتنا وأرد على السباب بمثله، كانت تنهرني فلا استجيب لها.

انتقلنا من البيت الريفي المشترك إلى بيت صغير في مدينة الشامية، اشتراه والدي من يهودي مهاجر، تقاسمنا البيت مع الحزن والخوف المستوطنين في نفوسنا، وجد أخي المرتد رفاقاً جدد في المدينة، لا يقلون سوءاً عن أولئك الذين تركناهم خلفنا، وبلغت شقاوته يوماً أن خدش يد والدته بموسى حلاقة لرفضها اعطاءه نقود، لم يكن بعد قد دخل المدرسة، وسرعان ما سجله والده في مدرسة عادل ببغداد، وأسكنه قسمها الداخلي، وهي مدرسة تملكها وتديرها عائلة لبنانية مسيحية ومدرساتها مسيحيات ويهوديات، فازداد حزن ولدتي لفراق ابنها، بعد مدرسة عادل اكمل دراسته في كلية بغداد، وهي مدرسة ثانوية للمسيحيين اليسوعيين الكاثوليك، ومقرهم في أمريكا.

"متى يحين عيد الكرفس لأرى ولدي؟" استعصى نطق كلمة الكريسماس أي عيد الميلاد المسيحي على لسان والدتي فحورته إلى كلمة متداولة: الكرفس، وفي كل عيد كرفس أو كريسماس إجازة طويلة لطلاب مدرسة عادل وكلية بغداد يقضيها ولدها البكر بجانبها فيخبو حزنها قليلاً.

بعد انتقالنا إلى بغداد في 1960م أخرجه والدنا من القسم الداخلي ولمدة ثلاث سنوات، كان حاضراً بجسده معنا وغائباً بعقله وقلبه عنا، كان مراهقاً ولا يطيق البقاء معنا، وهكذا مضت ثلاث سنوات ثم حان وقت مغادرته، هذه المرة إلى لبنان، ليدرس في الجامعة الأمريكية هي الأخرى غرضها الأصلي التبشير بالدين المسيحي، ولكن على المذهب البروتستانتي لا الكاثوليكي، فانفطر قلب والدتي مرة أخرى، ومن هناك ذهب إلى بريطانيا لاكمال دراسته العليا على حساب والده بالطبع، في غيابه توفى والدنا إلى رحمة الله، كنت حاضراً الوفاة، لكنه غاب عنها، وبعد انتهاء المرتد من الدراسة بلغنا أن والدتنا بحاجة لعملية عاجلة في عينيها فرفض العودة فوراً لأنه كان ينتظر اتمام معاملة استيراد سيارة من دون رسوم بحكم كونه من أصحاب الكفاءات فقطعت دراستي وعدت لأكون بجانب والدتي.

عمل في جامعة بغداد مدرساً في كلية العلوم، وعاود سيرته الأولى، في اختياره رفاق السوء، انضم لحزب البعث، وتردد على بيت أخ غير شقيق له ليلعب القمار، وكانت والدتي تسهر لقريب الفجر بانتظار عودته من موائد القمار، وتعرف على أساتذة منحطين، خانوا أمانة المهنة، ولن أزيد، وفي الكلية تعرف على طالبة مسيحية، وغادر العراق في 1982 ليتزوجها، ثم ارتد عن دينه واعتنق النصرانية على مذهب زوجته وصار يدعونا للحاق به.

هذا سرد مختصر لسيرة حياة المرتد ومنه يمكن التعرف على عدد من العوامل الظرفية لا السببية التي أدت إلى ارتداده:

أولا": المجتمع القبلي في جنوب العراق، والذي ولد فيه المرتد وقضى فيه طفولته، وهو مجتمع يتصف بالقسوة والظلم والهوان والطبقية وضعف التدين وانتشار الخرافات والاعتقاد بالسحر والانحرافات السلوكية والشذوذ، وهي كلها صفات سلبية منفرة.

ثانياً: البيئة العائلية المعقدة والمضطربة نتيجة تعدد الزوجات والاضطهاد الذي تعرضت له والدته وحزنها المتواصل.

ثالثاً: غياب التربية الدينية فقد كان التدين في مجتمعنا الريفي مقصوراً على الرجال الراشدين وهم نادراً ما يعلموا أولادهم مباديء دينهم أو يعودوهم على الصلاة والصيام، وبسبب ذلك الاهمال فقد تعلمت معارفي الدينية بنفسي ومن خلال الكتب، ولم أصلي قبل المدرسة المتوسطة، وتعلمتها من كتيب اشتريته من مكتبة في مدينة الكاظمية، وكانت صلاتي موضع استهزاء وسخرية من شقيقي وأخ غير شقيق يسكن معنا، وانعكس ضعف التربية الدينية على سلوك معظم أخوتي وأقاربي فشبوا على حياة المجون من التردد على الملاهي وشرب الخمور ولعب القمار وغيرها من السلوكيات المنحرفة، فلا عجب أن يتحمس أحد أخوة المرتد غير الأشقاء وهو مدمن للقمار للتوكل عنه ومساعدته بعد أن عرف بارتداده عن الإسلام، وكان فقدان الثقافة الدينية عاملاً رئيسياً في انتماء بعض افراد العائلة للأحزاب العلمانية المناهضة للدين مثل الحزب الشيوعي والبعث والوطني الديمقراطي. وكنت أسمع بوجود متدين وحيد بين أولاد الشيوخ، وعندما قتل ولده الشيوعي على يدي رفيق له ثأر الأب المتدين لمقتل ولده الشيوعي فاستأجر قاتلاً ليغتال أخ القاتل بائع الكبدة المشوية على قارعة الطريق.

رابعاً: الدراسة في المدارس المسيحية: كان والدي مثل أخيه الأكبر معجباً بالتعليم الحديث، وحريصاً على تعليم أولاده في أحسن المدارس والجامعات، لم يكن للشيعة على خلاف المسيحيين والسنة سوى المدرسة الجعفرية على الرغم من ثراء مالكي الأراضي وتجار الشيعة، فأرسل إبنه الأكبر إلى لبنان ليدرس المرحلة الابتدائية في مدارسها، زاره عمه يوماً فوجده يلبس صليباً في عنقه مهدى له من إدارة المدرسة فاخرجه منها. البيت والمدرسة هما المؤثران الرئيسيان على فكر وسلوك الفرد، في البيت لم يتعلم المرتد شيئاً عن دينه سوى عاشوراء والزيارات، لكنه في المدرسة تعلم القراءة والكتابة واللغة الإنجليزية والعلوم على أيدي مدرسين ومدرسات مسيحيين، فلا غرابة أن يعجب الطالب بإساتذته وحرصهم هم وأهل ملتهم على التعلم والتعليم مقارنة بخمول وتخلف أهله.

خامساً: التغرب الطويل: هنالك مثلان أو قولان حكيمان يرددهما الغربيون، الأول يقول بأن البعيد عن العين بعيد عن العقل أو القلب، والمثل الثاني وعلى العكس من الأول يؤكد بأن المحبة والأشواق تزداد مع الفراق، والقولان صحيحان، وفي حالة المرتد فقد باعدت المسافات الشقة بين قلبه وعائلته، فأصبح لا يكن لهم سوى الكره والاشمئزاز والاحتقار ولا يطيق الجلوس معهم ولا يحرص على أحوالهم ولو بالحد الأدنى، وينظر إلى ما تركوه له من حطام الدنيا على أنها مجرد غنائم ينتزعها ويفر بها ليسلمها للمبشرين الحاقدين على الإسلام والمسلمين.

سادساً: ضعف الشخصية: كان المرتد ومنذ صغره منقاداً للغير، يسيره أقرانه كما يشاؤون، إن كان أقاربه يلعبون القمار تعلمه ليقبلوا به، ولأن رفاقه في الجامعة اعضاء في حزب البعث سارع للإنضمام للحزب، ولم ينقضي وقت طويل على اقامته في بلاد الغرب حتى ارتد عن دينه.

سابعاً: زوجته غير المسلمة: تعرف عليها في الجامعة، كان هو الأستاذ وهي الطالبة، رمت شباكها عليه وهو معدوم الشخصية فاصطادته طريدة سهلة، تزوجته وهو يحمل الدكتوراة ويسكن بيتاً على ضفة نهر دجلة، اشترطت عليها عائلتها أن يتزوجها خارج العراق لأنهم يعتبرون زواج ابنتهم من مسلم عاراً كبيراً يسيء إلى سمعتهم فرضخ لشرطهم، في الغربة فقد كل مزاياه: لم يعد استاذاً جامعياً ولا يسكن بيتاً فارهاً وتبين بأنه عقيم لا ينجب، فلم يجد ما يقدمه لزوجته من تعويض سوى عقيدته الدينية فإرتد عن دينه.

لم يكتفي بالارتداد بل أصبح مبشراً بدينه الجديد، فلا بد أن يكون في بيت المرتد نسخة من الإنجيل، وفيها القول المنسوب للمسيح بأن المرأة الكنعانية التي توسلت إليه ليشفي ابنتها وقومها وبالتالي كل العرب والشعوب الأخرى غير اليهود بما فيهم المرتد مجرد كلاب حقيرة.